حين يختار حبر أعظم جديد وجهته الأولى خارج الفاتيكان، فكأنه يرسم خريطة أولوياته للعالم. واختيار البابا لاوون الرابع عشر للبنان كمحطة أولى ليس مجرد مبادرة رعوية، بل هو قرار محمل بالرمزية السياسية والدينية، وبرسائل موجهة إلى الداخل اللبناني والمحيط الإقليمي على حد سواء. ووفق التقليد البابوي منذ عقود، غالباً ما تكون الوجهات الأولى للباباوات الجدد نحو عواصم كبرى أو دول ذات ثقل سياسي عالمي، لكن اختيار لبنان يكسر هذا النمط، ويضع بلداً صغيراً يمر بأسوأ أزماته، على رأس الخريطة البابوية. هذا الاختيار يقول صراحة: المسيحيون في الشرق ليسوا هامشيين، بل هم في صلب اهتمامات الكنيسة الكاثوليكية.
الزيارة تأتي أيضاً في سياق استكمال ما لم يتمكن البابا الراحل فرنسيس من إنجازه، وهو كان يرغب في زيارة لبنان، لكن الظروف الصحية والسياسية والعسكرية حالت دون ذلك، وربما قد تكون الزيارة المرتقبة رسالة وفاء بوعد قديم، وتأكيد استمرار النهج البابوي تجاه المشرق.
ليست زيارة البابا الحالي اول زيارة لبابا الى لبنان، فقد سبقه القديس يوحنا بولس الثاني لبنان عام 1997، وكان البلد خارجاً من حرب دامية. كانت الزيارة احتفالاً بالنهوض من الرماد، ودعوة للمصالحة بين اللبنانيين، وركيزة لاطلاق السينودوس من اجل لبنان. بعد خمسة عشر عاماً، جاء بنديكتوس السادس عشر في ظروف إقليمية أشد قتامة. فالمنطقة كانت تغلي والثورات تشتعل، وسوريا دخلت في حرب طاحنة. كانت زيارة بنديكتوس رسالة صمود: ابقوا في أرضكم رغم العواصف المحيطة. اليوم، يبدو السياق مختلفا، فلبنان يصارع انهياراً اقتصادياً ووجودياً. الأزمة لم تعد عسكرية بقدر ما هي حضارية: هجرة جماعية، إفقار متسارع، يأس متفشّ.
لا يمكن فهم هذه الزيارة من دون العودة إلى ما لم يحدث في عهد البابا فرنسيس. كان الأخير مصمماً على المجيء الى لبنان، لكن عوائق عديدة قفزت في وجهه، بعضها كان صحياً بالتأكيد، لكن البعض الآخر كان سياسياً بامتياز، وترددت معلومات عن قلق بابوي من الاستقطاب الحاد بين المسيحيين اللبنانيين حينها، وتحديداً حول شخصية الرئيس السابق العماد ميشال عون. البابا الارجنتيني، كما ذكرت المصادر، لم يرد أن يصبح طرفاً في معركة سياسية داخلية. هنا يكمن الفارق الجوهري: وجود رئيس توافقي اليوم يزيل هذا الحرج السياسي، فهو لا يثير حساسيات طائفية حادة، ويحظى بقبول نسبي من مختلف الأطراف، وهو ما يوفر “الغطاء السياسي الآمن” للزيارة. يمكن للبابا أن يزور لبنان من دون أن يتّهم بالتدخل في الشؤون الداخليّة أو بدعم محور سياسي معين. هذا الشرط الضمني يكشف حقيقة مهمة: الفاتيكان يقرأ السياسة اللبنانية بدقّة، ولا يتّخذ قراراته بمعزل عن الواقع الميداني. والرسالة الاقوى التي يمكن البناء عليها، هي دعوة الى عدم افراغ الشرق من مسيحييه، وخصوصاً لبنان. وفي وقت تفرغ القرى المسيحية من سكانها، وتغلق المدارس والكنائس، تأتي الزيارة البابوية كصرخة مدوية: وجودكم هنا ضروري، ليس فقط للبنان، بل لكل المشرق، ما يعيد الاعتبار للدور المسيحي في لبنان. لكن الرسالة تتجاوز هذا البلد، إنها موجهة أيضاً إلى مسيحيي العراق الذين فروا من بلادهم بعد الغزو الأميركي، وإلى مسيحيي سوريا الذين شردتهم الحرب وعانوا من اضطهاد، وإلى مسيحيي فلسطين الذين يعيشون تحت الاحتلال. الرسالة واحدة: المسيحية المشرقيّة ليست ذكرى تاريخية، بل حضور حي يجب أن يستمر.
زيارة البابا لاوون الرابع عشر ليست مجرد حدث ديني، بل هي لحظة سياسية وتاريخية تحمل رسائل متشابكة: دعم للمسيحيين، تأكيد على أهمية التوافق السياسي، دعوة للحوار، ورهان على نموذج لبناني فريد. لكن هذه الزيارة، مهما حملت من رمزية، لا يمكن أن تصنع معجزات. المسؤولية تبقى على اللبنانيين أنفسهم: هل سيستفيدون من هذا الزخم لتجاوز خلافاتهم؟ هل سيعملون على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نموذجهم المهدد؟!.






