“وعلى الأرض السلام”
إلى إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات،
وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في الإسكندرية وبلاد الانتشار،
وإلى المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية،
يخبرنا اليوم إنجيل الميلاد قائلاً: “كان في ناحية بيت لحم رعاة يبيتون في البرية، يتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. ففاجأهم ملاكُ الرّبِّ وأشرق مجدُ الرّبِّ حولهم، فخافوا خوفاً شديداً. فقال لهم الملاك: “لا تخافوا، ها إنِّي أُبشركم بفرحٍ عظيم يكونُ فرحَ الشعبِ كُلِّه: ولِد لكم اليوم مُخلّص في مدينةِ داود، وهو المسيحُ الرّبّ. وإليكم هذه العلامة: سَتجدون طفلاً مُقَطماً مُضجِعاً في مذود”. وانضَمَّ إلى الملاك بغتةً جمهورُ الجُندِ السماويين يُسبّحون الله فيقولون: “المجد لله في العُلى! وعلى الأَرْضِ والسلام والرجاء الصالح لبني البشر” (لوقا ٢ : ١٤).
لقد نشرت الكنيسة المقدسة هذا التمجيد الذي أنشده الملائكة في الليلة المقدسة، وجعلت منه نشيداً لمجد الله. إنّ الله مُمَجّٓد، الله نور نقي، الله روعة الحقيقة والمحبة. هو طيّب وصالح، هو الخير الحقيقي . نقلت لنا الملائكة التي تحيط به ببساطة أوّلاً فرح معاينة مجد الله. نشيدهم إشعاع للفرح الذي ملأهم . يمكننا أن نسمع في كلماتهم، شيء من نغمات السماء. هنا توجد ببساطة السعادة التي غمرتهم إذ عاينوا بهاء حقيقة الله النقي ومحبته. نحن في هذه الأيام نودّ أن يلمسنا هذا الفرح: الحقيقة موجودة. الخير السار موجود. النور النقي موجود. الله طيب وهو القدرة العليا، فوق كل القدرات، لذا يجب أن يكون سبب فرحنا هذه الليلة المُقدّسة “إفرحوا بالربّ دائماً، أُكرٌِرُ القولَ: افرحوا” (فيليبي ٤ : ٤)، مع الملائكة والرعاة.
نشكرك يا رب في هذا اليوم المجيد، وفِي سائر أيام حياتِنا، لأجل عظمتك السامية. نشكرك لأجل جمالك وصلاحك، الذي ظهر في هذه الليلة مرئياً. ظهور الجمال يجعلنا فخورين بمجد الله وعظمته، التي منها يأتي كل جمال، تُفجّر فينا الدهشة والفرح. من يرى الله يشعر بالفرح “لأنّ الله ما رآه أحَدٌ قطٌ، الإبن الوحيد الذي في حِضْن الآب، هو الذي أخبر عَنهُ” (يوحنا ١ : ١٨). وفي هذه الليلة نرى نوراً من نوره “فيه كانت الحياة، والحياةُ نورُ الناس، والنور يُشرقُ في الظلمات، كان النور الحقّ، الذي يُنيُر كُلٌَ إنسان آتياً إلى العالم، كان في العالم، وبه كان العالم” (يوحنا ١ : ٤ – ١٠).
منذ القدم عرف الناس أنّ كلام الملائكة هو مختلف عن كلام البشر، وأنّ في هذه الليلة بشارة الملائكة السارة والمليئة بالفرح هي نشيد يشعّ فيه مجد الله. وهكذا فنشيد الملائكة هو موسيقى تأتي من الله، بل هي دعوة لكي ننضم إلى النشيد، في فرح القلب بأننا محبوبون من الله. يقول لنا القديس أوغسطينوس: “الإنشاد هو أمر يتعلّق بالمحبين”. هكذا، على مرّ الأجيال، يُصبح نشيد الملائكة من جديد نشيد حب وفرح، نشيد الذين يحبون من يحبهم ويضحي بنفسِهِ من أجلهم.
يقول آباء الكنيسة: كان الملائكة يعرفون الله في عظمة الكون، في منطق وجمال الكون الذي يأتون منه ويعكسونه. لقد حوّلوا نشيد الخلق الصامت إلى موسيقى في السموات. أمّا الآن فقد حدثَ شيء جديد، ما هو مروع وعجيب بالنسبة لهم. الذي يتحدث عنه الكون، الإله الذي يحمل الكل في يده، هو نفسه دخل في تاريخ البشر، أصبح شخصاً يعمل ويتألم في التاريخ “والكلمة صارَ بَشَراً، فسكن بيننا، فرأينا مجدهُ، مجداً من لَدُنِ الآب لإبنٍ وحيد ملؤه النِعمَةُ والحق” (يوحنا ١ : ١٤)، “فمع أنه في صورة الله، لم يَعُدَّ مُساواته لله غنيمة، بل تجَرّدَّ من ذاتِهِ مُتخِذاً صورة العبد، وصار على مِثالِ البشر، وظهر في هيئةِ إنسان، فوضع نفسه وأطاعَ حتى الموت، موتِ الصليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى، ووهبَ له الإسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لإسم يسوع كُلُّ رُكبةٍ في السماوات وفِي الأرض وتحت الأرض، ويشهدُ كُلُّ لسانٍ أنَّ يسوع المسيح هو الرّبّ، تمجيداً لله الآب” (فيلبي ٢ : ٦ – ١١) . عن هذا الاضطراب الفرِح الذي نتج عن هذا الحدث، بهذه الطريقة ظهر الله فيها، قال الآباء القديسون في ليلة الميلاد: “انبثق نشيد جديد”، آية حفظها لنا إنجيل الميلاد: “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام للبشر”.
رسالة الملائكة في هذه الليلة المقدسة تتحدّث أيضاً عن البشر: “السلام للبشر الذين يحبّهم الله”. الله وفانا بهبة إبنه الوحيد. ومن جديد يأتي إلينا بشكل غير منتظر. هو لا يتوقف أبداً عن البحث عنا، ويرفعنا في كل مرة عندما نكون بحاجة إليه. لا يتخلّى عن خرافه الضالة في الصحراء “هكذا يكونُ الفرح في السماء بخاطىءٍ واحد ٍ يتوب” (لوقا ١٥ : ٧).
الله لا يسمح لخطيئتنا أن تبعدنا عَنهُ . فهو، رغم ضعفنا، يبدأ معنا دوماً من جديد. وكل مرّة ينتظر توبتنا، ينتظر حُبّنا. يُحبنا لكي نستطيع أن نكون بالفعل أشخاصاً يحبون معه، وهكذا بالمحبة والصفح والمغفرة يكون هناك سلام على الأرض.
مجد الله هو، في أعالي السماوات، ولكن عظمة الله هذه توجد الآن في المذود الحقير. الذي كان متضعاً أصبح سامياً. نجده على الأرض، إنه مجد التواضع والمحبة اللامتناهية “من وضع نفسهُ رُفِعَ” (لوقا ١٨ : ١٤). إنّ مجد الله هو السلام. حيث يكون هو، هناك يكون ويحلُّ السلام “سلامي أُعطيكم، سلامي أمنحكم. لا كما يعطيه العالم” (يوحنا ١٤ : ٢٧). إنه حاضر بيننا، ولكن مع الأسف، لا يريد البشر أن يجعلوا بنواياهم الصالحة وقدرتهم وعملهم ونشاطهم من الأرض فردوساً ونعيماً، بلجوئهم الى العنف وشنّ الحروب. إنه حاضر مع أصحاب القلوب الساهرة، مع المتواضعين ومع الذين يفهمون عظمته، عظمة التواضع والمحبة. إلى هؤلاء، الله يمنح سلامه، لكيما بواسطتهم يحل السلام في العالم “طوبى للساعين إلى السلام، فإنّٓهم أبناء الله يُدعون” (متى ٥ : ٩).
لقد أتى الرب الى بيت لحم بصمتٍ. وحدهم الرعاة الساهرون، اختبروا بهاء مجيئه المنير، وسمعوا النشيد الجديد الذي صدر عن غبطة فرح الملائكة لمجيء الرب. مجيء مجد الرب الصامت هذا لا يزال يستمر عبر العصور. حيث وُجد الإيمان يُبشَّر بكلمته، يجمع الله البشر ويمنحهم ذاته في جسدِه، فيصبحون جسده السرّي.
“اليوم يأتي طفل المغارة”، ويوقظ قلوب الناس، قلوبِنا جَميعاً، ونشيد الملائكة يُصبح من جديد نشيد البشر الذين، عبر كل العصور، وبطريقة دائماً مستمرة وجديدة ينشدون مجيء الله كطفل، وفي حميميتهم يبتهجون. أشجار الغابة تأتي إليه مهللة نشيد المجد، الذي في العمق، يتحدث عن ذاك الذي هو نفسه شجرة الحياة. بالإيمان به ننال الحياة. في سر الإفخارستيا “القربان المُقدّس” إنه يمنحنا الحياة الأبدية. اليوم نضم نشيدنا إلى نشيد الخليقة ونصلي قائلين: نعم أيها الرب يسوع، أرنا بهاء مجدك، وامنح السلام للأرض. إجعلنا رجال ونساء، شيوخ وشبان وشابات وأطفال سلامك.
في عيد ميلادك يا ربُّ، هب لرؤسائنا الروحيين أن يتحلّوا بحس الملائكة فيحملون من خلال شهادة حياتهم ورسالتهم موسيقى سلام الله، فيحملوا الفرح إلى البشر، ويمجدوا الله مع الملائكة في العلى.
في عيد ميلادك يا طفل المغارة ، نصلّي من أجل رؤسائنا وحكامنا المدنيين، ليفهموا دورهم في بناء حضارة الحياة، تنمو لديهم الرؤية والفهم على مداواة الجراح وصنع السلام. وليعلموا أنّ السلام الذي لا يُبنى على العدالة والمحبة يقود إلى الحياة بل إلى الموت.
في عيد ميلادك يا ملك السلام، ومع ترانيم ملائكة السماء وابتهاج الأرض، ننحني باتّضاع أمامك أيها الإله المتجسّد ونعترف بملكوتك، ملكوت السلام، ونصلّي من أجل كل الناس، وبدون تمييز في كل المعمورة كي نكون خدام وفاعلي السلام، نسعى لنشر العدالة والرحمة والسلام في العالم، وفِي شرقنا وبلادنا خاصةً.
في عيد ميلادك يا نورٍ من نور، هبنا أن يتّقد فينا دائماً نور سلامك، كي لا ينطفئ فينا نور احترام كرامة الإنسان الإلهية، فنكرم صورتك في كل شخص، ضعيف، غريب وفقير ولاجئ ومشرّد، بروح الأخوة والرحمة والسلام.
في عيد ميلادك يا ملك السلام وموطده، رتّلت الملائكة: “الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ أَهْلُ رِضاه!” (لوقا ٢ ١٤)، نطلُب منك حقق واغرز يا ربنا هذا السلام في كل دول العالم، وخاصةً المطعونة والمجروحة جراء الحروب والظلم والحقد والتعصب الأعمى، والمنتهكة حقوقها وكرامتها، حقق في كل هذه البلاد خيرك ورحمتك، فيتحقق سلامك، “كما في السماء كذلك على الأرض” (متى ٦ : ١٠) .
أتمنّى لكم ميلاداً مجيداً وسنةً جديدة مباركة، وكُلُّ سنة وأنتم سالمين.
المسيح ولِدَ فمجّدوه. هللويا، هللويا، هللويا…
صدرت عن كرسينا الأسقفي
الاحد ١٧ ديسمبر / كانون الاول ٢٠٢٣
وهي السنة التاسعة عشرة لحبريّتنا