هي الأولى المَرَّةُ، يُعلِنُ خَليفَةُ بُطرُسَ بَطرِيَركاً إنطاكِيَّاً لِلمَوارِنَةِ طوباوِيَّاً. أَتَهليلٌ إعتِلانُهُ؟ بَل تَكريسٌ لَمَسيرَةٍ لَو جُرِّدَتُ الإنسانِيَّةُ مَنها، لَتَصَدَّعَت أُسُسُ وجودِ لبنانَ، وَلَعوكِسَ الخالِقُ في تَصميمِهِ الإلَهيِّ الُلبنانِيِّ.
أجَل! بِدونِ القَداسَةِ عَصَبُهُ، لا لبنانَ يَستَقيمُ. الكَلِمَةُ وَحدَها لا تُجاريهِ مِن دونِها.
والقَداسَةُ إقدامٌ. البَطرِيَركُ إسطفِانُ الدوَيهي (–16301704)، أدرَكَها.
في تِلكَ الَّلهفَةِ ألفيهِ كانَت إلَيها، بَلوَرَ تَجَلِّياتِهِ في كُنهِيَّاتِ دَربِ الصَليبَ الثالوثِيِّ الذي كانَتهُ حَياتُهُ: تِلميذاً في روما قاوَمَ فُقدانَ النَظَرِ، فإنتَصَرَ على العَمى بإيمانِ البَصيرَةِ-البَصَرِ. مُرسَلاً مِن حَلَبَ لِقُبرُصَ قاوَمَ أسوارَ البَراقِعَ، فإنتَصَرَ على ثَنايا العَواتِقَ بإيمانِ إعلاءِ الحاضِراتِ. رَسولاً في لبنانَ قاوَمَ بَطشَ قافَلاتِ الظُلُمِ، فإنتَصَرَ على جَمرِ الإقصاءِ بإيمانِ إختِلاقِ كَيَانٍ سِفرُ وجودِهِ لا على قارِعَةِ طَريقٍ بَل في كَمالِ إستِحثاثِ الإنسانِ لِلإنسانِيَّةِ.
أَإِلى حَدِّ النورِ إرتَفَعَ على صَليبِهِ؟ بَل الى ذاكَ الحَدِّ أعلى قِيامَةَ شَعبِهِ وَكَرَّسَهُ قِيامِيَّاً، بِهِ يُستَنارُ في أحَقِيَّةِ الحَقيقَةَ. والحَقيقَةُ فَضاءَاتٌ. في صِدقِ هَذا الوَعي، ثَبَّتَ الرِضى مُعطىً وأطلَقَ حُرِيَّةَ التَحَدِّيَ تَحَدِّياً لِلحُرِّيَةِ. مِنَ الأعمَاقِ الى القِمَمِ. مِن “تاريخِ الأزمِنَةِ” الى “مَنائِرَ القَداسَةِ”، وَسمَّى ذَلِكَ “مَنارَةً”، موصِياً “أن يَكونَ كالسِراجِ على مَنارَةٍ حَتَّى يَستَضيءَ بِهِ كُلُّ مَن في بَيتِ هَذا العالَمِ عالَمِ الظَلامِ”… الى أقصى المَغفِرَةِ. هو الغافِرُ لأبي نَوفَلِ الخازِنِ أهاناتِهِ لَهُ لأنَّ أنتِخابَهُ “جَرى مِن دونِ مَشورَتِهِ”، والقائِلُ لِعيسى حمادِه الَذي جاءَهُ مُعتَذِراً عَن إهانَتِهِ لَهُ: “أغفِرُ لَكَ كُلَّ ما فَعَلتَهُ مَعي، وإنِّي لَمُستَعِدٌّ وأشتَهيَ أن أحتَمِلَ أكثَرَ مِن ذَلِكَ حُبَّاً بِسَيِّدي الَذي لِأجليَ تَألَّمَ وَماتَ”.
مِنَ الإختِباءِ في المَغاوِرَ أيَّاماً وَليالٍ، الى التَشَرُّدِ في الهِضابِ، وَمِنَ الوِديانِ الى قِمَّةِ غوسطا وَقُرى الشوفِ، أرسَى هذا الوِجدانَ الرِسالِيَّ، فِعلاً تأسيسيَّاً يَغلِبُ الآلامَ بإستِحقاقاتِ الفِداءِ الواحِدِ المُوِحِّدِ بَينَ الإلَهِ-الفادِيَ والإنسانِ-المُفتَدى-الفادِيَ. هو الكاتِبُ في رِسالَةِ تَهنِئَتِهِ البابا إينوشِنسيوسَ الثانيَ عَشَرَ بإنتِخابِهِ: “ضِياعٌ كَثيرَةٌ هُدِمَت وَبَعضُ الأديارِ إحتُرِقَت والكَنائِسُ تَهَجَّرَتِ وإنتَقَلَ شَعبٌ كَثيرٌ. والباقِي تَفَرَّقوا بَينَ الأُمَمِ القَريبَةِ بِسَبَبِ تَغيِّير الحُكَّامِ وَقَساوَتِهِمِ… وَجاءَ القَحطُ والغَلاءُ فَزادَتِ الأسعارُ خَمسَةَ أضعافٍ عَمَّا كانَت عَلَيهِ. لَكِنَّ أحكامَ البارِيَ غَيرُ مُدرَكَةٍ. وَمَهما يَجينا مِن جانِبِهِ مَقبولٌ عالراسِ والعَينِ”…
خاصِيَّةُ اليَقَظَةِ
حينَ كانَ إقطاعُ الخازِنِيِّينَ والحَمادِيِّينَ يَغلو إغراقاً بالجورِ، وَجورُ بَني عُثمانَ يَغلو إغراقاً بالدَنَسِ، كانَ الدوَيهيُّ-البَطرِيَركُ يَزرَعُ بُذورُ الكَيانِ الُلبنانِيِّ، لَيسَ على صَعيدِ أبناءِ كَنيسَتِهِ فَحَسبَ، بَل على صَعيدِ باقِيَ الطَوائِفِ-الأَقَلَّوِيَّاتِ، إغتِناءً بِبَعضِها البَعضِ، وَبَلوَرَةً لِهَوِيَّةٍ أُمَّوِيَّةٍ-لُبنانَوِيَّةٍ بِشَخصِيَّةٍ جامِعَةٍ، وَإنفِتاحاً على إستِنطاقِ النَفسِ مِن مَغالَيقَ المَشارِقِ الى المغَارِبَ.
أفي مًؤَلَّفاتِهِ إستِضاءاتُ القيامِيَّةِ الثالوثِيَّةِ هَذِهِ وَثَّابَةً مِنَ التُراثَينِ السُريانِيِّ والعَرَبيِّ؟ هو الجاعِلُ العِلمَ خَلقَ القَداسَةِ، سَطَّرَ أُفُقَ رِيادَةِ قَبولِ الآخَرِ، في سِياقٍ شامِلٍ لِلتاريخِ، لِتَجَوهُرِ البَحثِ عَنِ الذاتِيَّاتِ وَتَحديدِ الإنتِسابِ.
بِتِلكَ الخاصِيَّةِ، دَمَغَ البَطرِيَركُ-الدوَيهيُّ ثالوثِيَّةَ الوجودِ المَسيحِيِّ الرابِطِ، جُغرافِيَّاً وَفِكرِيَّاً وَتَحرِرِيَّاً، وَأعلى نَشأةَ الكَيانِ الُلبنانِيِّ في نَفسِ المَوارِنَةِ المُكَوكِبَةِ لِلعائِلاتِ الروحِيَّةِ على أُسُسٍ ثالوثِيَّةٍ: البُعدُ الوِجدانِيُّ (قَنُّوبينُ)، القَلبُ النابِضُ (كِسروانُ)، الجَسَدانِيَّةُ المُرَوحِنَةُ (الشوفُ).
هي خاصِيَّةُ اليَقَظَةِ أطلَقَ عِنانَها الإنطاكِيَّ لِإبتِكاراتِ الشَجاعَةِ لا لِإستِقراءاتِ الكِفايَةِ… بِوَجهِ كَمائِنَ الظَلامِيَّاتِ.
لِأجلِها هو طوباوِيُّ لبنانَ القُدسِيُّ.