” كلك جميلة ولا عيب فيكِ ” ( نشيد الأناشيد ٤ : ٧ ) مريـم العذراء منزهة ومعصومة من الخطيئة : في الثامن من كانون الأول سنة ١٨٥٤، أعلن البابا بيوس التاسع في براءة بابويّة مريميّة أنّ مريم لم تخضع لسيطرة الخطيئة في أية لحظة من حياتها، منذ الحبل بها: فبفعلٍ مسبق للفداء، حفظها إنعام إلهيّ خاص من دنس الخطيئة الأصليّة. وهذا نصّها : “ نعلن ونحكم ونحدد أن الطوباوية مريم العذراء قد حُفِظت من الخطيئة الاصلية منذ أول يوم حبل بها، بنعمة وانعام خاص من الله القادر على كل شئ، بالنظر الى استحقاقات السيد المسيح مخلص الجنس البشري، وهي عقيدة أوحى بها الله. فيجب على المؤمنين أن يؤمنوا بها ايمانا راسخاً ”. وقد أكّدت العذراء نفسها هذه العقيدة في ظهوراتها في “مدينة لورد الفرنسية ” سنة ١٨٥٨، عندما أعلنت لبرناديت وللعالم “أنا الحبل بلا دنس”. أولاً : نص ومضمون العقيدة حدد العقيدة البابا بيوس التاسع في ٨ ديسمبر / كانون الأول ١٨٥٤ وقال في تحديده “ إننا نعلن ونحدد أن التعليم القائل أن الطوباوية مريم العذراء قد عصمت منذ اللحظة الأولى للحبل بها من كل دنس الخطيئة الأصلية، وذلك بنعمة وإنعام فريدين من الله القدير، ونظراً إلى إستحقاقات يسوع المسيح مخلص الجنس البشري، هو تعليم موحى به من الله، وواجب من ثم على جميع المؤمنين الإيمان به إيماناً ثابتاً لا يتزعزع ”· شرح النص : هذا التحديد لا يعني أن مريم العذراء قد حبلت بها أمها حنة بقدرة الروح القدس دون العلاقة مع رجل كما حبلت العذراء بإبنها يسوع، فالقديسة حنة قد حبلت بمريم بشكل طبيعي كما تحبل سائر النساء، بيد أن العذراء ـ وهذا هو مضمون العقيدة ـ وإن حبلت بها أمها على طريقة سائر البشر، فإن نفسها الشريفة كانت حاصلة على نعمة القداسة، ومن ثم خالية من كل خطيئة، منذ خلقها الله وأتحدها بالجسد في أحشاء حنة، ولم تحصل العذراء الفائقة الطهر على هذا الإنعام الفريد إلا باستحقاقات ابنها فادي البشر، ومن ثم هي مثلنا مفتداة بدم كريم، بيد أن نعمة الفداء لم تكن لها نعمة تبرير من خطيئة تغطي نفسها الطاهرة بل نعمة مناعة وعصمة تقي نفسها الكريمة من التلوث بخطيئة الأبوين الأولين، ولئن كانت العذراء مريم لم تعتق ولم تعصم في الوقت نفسه من ملحقات الخطيئة الجدية كالموت، فما ذلك إلا لأن مصيرها كان مرتبطاً أرتباطاً صميماً في تصميم الله الأزلي بمصير ابنها الإلهي. إنها حواء الجديدة التي تشارك مع آدم الجديد في ولادة البشرية إلى حياة جديدة بفعل سفك دمه الزكي. أي أن سر الفداء بالنسبة لمريم العذراء كان سر مناعة ووقاية وحماية وعصمة تحميها من التلوث بخطيئة أبوينا الأولين، أي أنها الأولى في لائحة المخلصين. وقد منحها الله هذه الهبة الفريدة لا لإستحقاقها الخاص، بل لأنها كنت منذ الأزل مختاره منه تعالى حتى تصير أماً لابنه الحبيب، ولهذا السبب خلقت مريم العذراء محلاة بالنعمة المبررة أي شبيهة بحواء الأولى قبل السقوط. ثانياً: الحبل بلا دنس في تاريخ الكنيسة وأقوال الأباء : أ. من القرن الأول حتى القرن العاشر · العلامة أوريجانوس (+٢٥٤) ” إن تحية الملاك (السلام عليك يا ممتلئة نعمة) وفي النص اليوناني(المكونة بالنعمة) لا تليق إلا بمريم دون سواها لأنها ما تدنست أبداً من لدغة الحية المسممة”. * القديس أمبروسيوس (القرن الرابع) “إن العذراء مريم بمفعول النعمة كانت طاهرة ونقية من كل دنس” * مار أفرام السرياني (+ ٣٧٣ ) يخاطب المسيح والعذراء قائلاً “إنكما وحدكما جميلان كل الجمال من كل وجه، إذ ليس فيك ياسيدي عيب ولا في أمك دنس” ويقول أيضاً “إن العذراء طاهرة وحدها نفساً جسداً فهي الكلية القداسة، النقية، التي لا عيب فيها، كلها نعمة كلها نقاء بلا دنس ولا شائبة. كذلك يخاطب العذراء في إحدى أناشيده قائلاً لها “أيتها التابوت المقدس العذراء النقية، البريئة من الدنس والمنزهة عن كل خطيئة، أيتها البتول عروس الله”. * ديدموس الاسكندري (+ ٣٩٦): “إنها العذراء البريئة دائماً وأبدا فهي الدائمة البكارة والكاملة الطهارة في النفس والجسد والروح، فقد ظلت مريم دائماً عذراء هي الدائمة القداسة لأن البركة الإلهية قد حلت عليها منذ أول لحظة لتكوينها في الأحشاء” * القديس أوغسطينوس : “ على البشر أن يعرفوا أنفسهم بأنهم خطأة باستثناء العذراء مريم التي هي أبعد من أن يدور الكلام عليها في موضوع الخطيئة بسبب شرف المسيح” ثم يقول في موضع آخر “ إن والدة السيد المسيح قد استمرت عذراء لا في جسدها فحسب بل وفي روحها أيضاً فإنها وإن كانت قد اشتركت مع الجنس البشري بالولادة الطبيعية إلا أنها لم تشترك معهم في الخطيئة ” هو نفسه أيضاً يقول في تعاليمه عن الخطيئة “إن كان الشيطان هو رأس الخطيئة فمريم قد سحقته لأن الخطيئة لم تجد إلى نفسها النقية سبيلاً”. * القديس كيرلس الأسكندري (عمود الدين) (+ ٤٤٤ ) : يعلم قائلاً : “ إننا جميعاً نولد بالخطيئة ونأتي إلى العالم حاملين هذا العار الذي ورثناه عن أبينا آدم ماعدا العذراء القديسة التي جاءت لنا بالإله المتجسد ” . * القديس سابا ( ٤٣٩ – ٥٣٢): يخاطب العذراء قائلاً “أنت التي لم تعرفي الخطيئة أبداً، أنت رجائي وليس أحد غيرك منزهاً عن الدنس، أنت البريئة من كل خطيئة” ب. من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر ظهر في الشرق اليوناني في القرن السابع عيد جديد هو عيد الحبل بوالدة الإله، ودعي باسم “ عيد حبل القديسة حنة ”، وعلى أثر انتشار هذا العيد في الشرق المسيحي بدأ ظهوره في الغرب في نهاية القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي. لذا أخذ اللاهوتيون يتباحثون ويتسائلون ما هو السبب الذي دعى الكنيسة أن تقيم عيداً حافلاً لحادث عادي وهو “ بدء حياة مريم العذراء ووجودها على الأرض ” . فوصل البعض منهم أن الكنيسة تهدف بهذا العيد إلى إعلان حدث عظيم وهو الحبل بمريم العذراء منزهة من وصمة الخطيئة الأصلية من هؤلاء : * القديس بطرس دميان ( القرن الثاني عشر) الذي يعلم ويقول “إن الجسد الذي ورثته العذراء مريم أم الله عن آدم لم يتدنس أبداً بجريرة آدم” · القديس بونافنتورا: يقول في تعاليمه “إن سيدتنا مريم العذراء قد وجدت ممتلئة نعمة وقد صانها الله من دنس الخطيئة الأصلية”. ج. من القرن الرابع عشر إلى القرن التاسع عشر : المجمع التريدنتيني المقدس ١٥٤٦ : درس المجمع موضوع الخطيئة الأصلية وتسربها إلى الجنس البشري أجمع، وأصدر مرسوماً في شأن الخطيئة الأصلية أعلن فيه “ أن المجمع المقدس لا يتعرض بهذا المرسوم للطوباوية مريم العذراء أم الله البريئة من كل دنس ”. * في ٨ ديسمبر / كانون الاول ١٦٦٢ أصدر البابا ألكسندروس السابع منشوراً يعلن فيه صحة التعليم القائل ببراءة العذراء مريم من الخطيئة الأصلية. * البابا أكليمندوس الحادي عشر سنة ١٧١٣ ، أقر عيد حبل القديسة حنة بمريم العذراء عيداً رسمياً وجعله إلزامياً للكنيسة بأسرها. ثالثاً: الأدلة الكتابية على عقيدة الحبل بلا دنس : · (تكوين ٣ : ١٥) “أجعل عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، فهو يسحق رأسك وأنت ترصدين عقبه”. كيف تكمل هذه العداوة في حين كان لطرف سلطان ولو لبعض الوقت على الطرف الآخر، فلو كانت مريم العذراء تدنست بخطيئة الإنسان الأول لصار للشيطان سلطان عليها لبعض الوقت ولكذبت وعود الله الخاصة بهذه العداوة. * “ كلك جميلة يا حبيبتي ولا عيب فيك ” (نشيد الأناشيد ٤ : ٧) . * ” أختي العروس جنة مقفلة، ينبوع مقفل، وعين مختومة ” (نشيد الأناشيد ٤ : ١٢ ) ، المقصود بالعيب حسب لغة الكتاب المقدس هو عيب الخطيئة وبالتالي إذا طبقنا كلمات النص على مريم العذراء فهي بلا عيب الخطيئة ولم تتدنس بها، فهي جنة مقفلة أي لم تتدنس يوماً ما. * ” السلام عليك ياممتلئة نعمةً ” ( لوقا ١ : ٢٨ ) ، إن تعبير يا ممتلئة نعمة تعبيراً صريحاً عن حالة القداسة التي تنفرد وتتمتع بها مريم العذراء كاملة الطهر. وهذا ما دفع العلامة أوريجانوس للقول “لا أذكر أني قرأت هذه العبارة في أي مكان آخر في الكتاب المقدس، إنها سلام يقتصر على مريم دون سواها” الكلمة يا ممتلئة نعمة باللغة اليونانية وردت مرة واحدة في كل العهد الجديد، فقط في هذا النص، وقد ورد فيها الفعل بصيغة تفيد الديمومة أي في الماضي والحاضر والمستقبل، بصرف النظر عن الزمان والمكان وحدودهما. رابعاً : الأدلة والبراهين العقلية على العقيدة : * إن كان الله هو الطهر بالذات وجب أن يخصص لذاته أماً طاهرة نقية تليق به، وإن كان الله قدوساً فهو في الوقت ذاته قادر على كل شئ وفي استطاعته أن يصون من الخطيئة من يريد فبقدرته غير المحدودة يستطيع أن يختار لذاته أمأ بغير عيب وبغير خطيئة. · إذا كان له سبق وملئ يوحنا المعمدان وأرميا وهما في الأحشاء من الروح القدس، فكم بالحري بالنسبة لأمه ألا يستطيع أن يعصمها من دنس الخطيئة. · إذا كان الملائكة بلا عيب وآدم وحواء قبل السقطة كانا بلا عيب فهل أم الله أقل شأناً من الملائكة أو من آدم وحواء، لذا وجب الأعتراف بأنه تعالى قد عصمها ونزها عن كل خطيئة. * العذراء هي حواء الجديدة أم الحياة، فكيف تكون أم الحياة وشريكة الفداء خاضعة للموت الروحي ، وكيف يأخذ ابن الله جسداً من جسد خضع ولو فترة من الزمن لسلطان أبليس ؟. فمريم ممتلئة نعمةً ( لوقا ١ : ٢٨ ) ، و منزه من الخطيئة الأصلية ، ولا عيب فيها .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك