ماذا أعمل ؟ وأنا لا أقوى على الفلاحة ، وأخجل بالاستعطاء ( لوقا ١٦ : ١ – ١٣ ) أخي المؤمن ، ليس بجديد لك ولقراء الانجيل المقدّس، قراءة وسماع هذا المثل والتأمل به ، مثل : ” الوكيل الخائن ” ، الذي بذّر أموال سيده ، إمّا بالإهمال أو سهواً أو تهوناً . وضع القديس لوقا الإنجيلي مثل الوَكيل الخائن مباشرة بعد ثلاث أمثال الرحمة (لوقا ١٥ : ١ – ٣٢ ) . يدعونا الله للتغيير للسير نحو حياة كاملة، حياة نكون فيها وكلاء رحمة ويدعونا أن نكون أمناء على عطاياه لنا إن كل ما نتمتع به الآن في حياتنا الحاضرة من وقت وصحة ومال وآباء وأولاد وأقرباء وأصدقاء ، إنما هي عطايا من الله لنا، ونحن وكلاء عليها. ففكر الوَكيل ماذا يفعل في أيامه القادمة، ولكن سيده أمتدحه، لأنه في حكمة فكر في مستقبله، فكَّر في أن يكون له أصدقاء يلجأ إليهم حينما يأخذ منه الوَكالَة. يدعونا يسوع من خلال المثل أن نتحلّى بالفطنة والحكمة، الّتي تحلّى بها هذا الوَكيل الخائن، وأمّن مستقبل باقي أيّام حياته. يريد منّا يسوع أن نتحلّى بهذه الصّفات، لا لتأمين مستقبل أرضي وإنما لتأمين مستقبلنا الأبدي. هذا المثل يكشف لنا المعاملة بين الله والإنسان : في هذا المثل لا نجد تلميحاً لسرقة او معاملة الوكيل الخائن ، بل قصة تاريخ المعاملة بين الله والإنسان . والرب سيد الكون ، الغني بالمراحم والعطايا، يمنح لكل إنسان وزنات وهبات مختلفة ومتنوعة : ثروات مادية وروحية وفكرية وإجتماعية. وكل ما نجد فينا ومعنا يخصّه. وقد وضعه تحت تصرفنا ليرى فينا القريب والبعيد، ومن خلال شفافيتنا وصفاء قلوبِنا ، محبته اللامحدودة . ويوم القيامة سيُطلب منا ميزانية أعمالنا على الأرض وكيفية تصرفنا بوكالتنا على تلك الوزنات والمواهب التي منحنا إياها. ونتيجة تلك الميزانية سنكافأ أو سنعاقب. فوجئ الوكيل وارتقب طرده من عمله وسُحبت الوكالة من يده بسبب تصرفاته وإهماله. ففكّر في نفسه ما العمل ؟ وهو المسؤول عن ذلك … أيعمل كأجير؟ فقرّر تأمين مستقبله مستفيداً من ثروات سَيِّدِه. فوزّع الهدايا لمديني سيّده واشتراهم بحسومات وإعفاءات، خففت عنهم أعباء كثيرة، ليكونوا له أوفياء وأصدقاء. علم السيد بخيانة وكيله ولم يلمه بل أثنى على فطنته وحكمته لتأمين من يقبلونه في عيونهم عرفاناً بالجميل . لم يكن الوكيل الخائن هدفاً في مثل اليوم الإنجيلي، بل ليعطيه لنا الرّبّ يسوع قدوة نحتذي بها. و يشدّد المعلم الإلهي على فطنة الوكيل الخائن تمهيداً لمستقبله، ويتمنى على تلاميذه وعلى كل المؤمنين أن يكونوا أكثر فطنة في الأمور الروحيّة الأبدية، لممارسة الحياة المسيحية حسب تعاليم الإنجيل ، وأن يكون لديهم الشجاعة والجرأة لإكتساب القيم السامية بالوزنات الأرضية المعطاة لهم كوسيلةً وليس هدفاً. بإستطاعة الإنسان جعل الزائل طريقاً للأبدية، ليكون لنا الصديق الوسيط والشفيع لدى الآب الحاكم والديان العادل. بإستطاعة المؤمن جعل المال إمّا صنماً مستعبداً، وإمّا أداة لتمجيده تعالى ليوفّر للإنسانية جمعاء حياة لائقة بأبناء الله، مكللة بالسعادة الأبدية. المال ضروري ومفيد إذا اِستُعمل لتأمين لقمة العيش للفقير والمعوز، والعلم للأُمي ، والعمل للمهجّر ، والدواء للمريض ، والإبتسامة للبائس والحزين والمتعب. والإنسان يجد نفسه أمام اختيار حر، الرب أو المال . الرّبّ والمال كما علمنا يسوع ، خصمان متصارعان، لا مجال لمصالحتهما: الله وسعادتي وسعادة الإنسانية جمعاء، وأمّا المال والأنانية توّلدان تعاستي وتعاسة الناس. خلاصة تأملنا : أراد الوكيل الخائن أن يشتري لنفسه أصدقاء يساعدونه في ضيقه بمال سيده، لقاء الأرباح التي تأتيهم بواسطته. فطلب من مديني سيّده أن يكتبوا صكوكاً بكميات أقل من الحق، ليصدّق عليها ويقدّمها للمالك . وبعد فحص ضميره أعطى هذا العذر قائلاً : ” أنا لا أقوى على الفلاحة ، وأخجل بالاستعطاء ” ( لوقا ١٦ : ١ – ١٣ ). وكان أولى به أن يقول : ” لا أستطيع أن أختلس”. ليس في هذا المثل تقديم أعذار لمن يجمع مالاً بالظلم أو بالخداع لينفقه كله أو بعضه في سبيل الخير والإحسان ، فإن أفضل بابٍ للتخلص سريعاً من مال الظلم ، متى وُجد، هو بذله في سبيل الخير والإحسان . ولا سيما ما يمهّد للذي يأخذه في طريقه إلى السماء. لقد استخدم الوكيل الخائن في هذا المثل ، مال الظلم ليجذب إليه أصدقاء يقبلونه عندما يسيطر عليه الضيق والشدة والصعوبات، فكم يجب أن يسعى الذي يريد أن يتخلص من مال الظلم الموجود بين يديه ، ليربح بواسطته أصدقاء يستقبلونه في الديار الأبدية ؟ وإن كان وكيل الظلم ، كما يقول يسوع في هذا المثل : أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم . نعم ، لقد اجتهد الوكيل بالحرام ليحقّق مستقبله الزمني، فكم يجب أن يجتهد كل حكيم في خدمة مصالحه الروحيّة ليحقق مستقبله الأبدي ؟ والذي تظهر أمانته في الأمور الأرضية التي تُعَدُ زهيدة، هذا يختاره الله ليرزقه الكنوز الأثمن كثيراً أي في الحياة السماوية. أحبائي : اليوم ، قد يكون هذا الوَكيل الخائن والغير الأمين صورتنا نحن الغير أمناء . فقد تمَّ ربح أموالنا دون استحقاق منّٓا، لأنه لا يوجد شيء مما لدينا هو ملكنا بشكل كامل ، بل ما لدينا هو فيض من نِعَم ومواهب وعطايا الرّبّ علينا. في حياتِنا تنشأ المشكلة ، وتبدأ الصعوبات عندما ننسى مصدر النعم ، إذ نُحول الأشياء إلى ممتلكاتنا الخاصة بنا ، ومع الأسف ، من خلال الغش والرشوة والفساد فنقع في الغنى الفاحش وعدم مشاركة ومساعدة الآخرين . إلا أنَّ الحياة تُذكرنا أنه في أي لحظة من حياتِنا، يمكن أن يؤخذ منا ما أُعطي لنا، لأنّه ليس ملكًا لنا، بل نحن مجرد وكلاء عليه .
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك