تحتفل الكنيسة اليوم بعيد الثالوث الأقدس وكلنا نعرف ونعتقد أن في الديانة المسيحية أسراراً بلغت أقصى غاية من السمّو والكمال حتى أصبحت فوق مفاهيم عقول البشر وأرفع من مداركهم . بل أرفع من مدارك الملائكة . هناك سببان : الأول : عظمة العزة الإلهية . والثاني : ضعف فهم الإنسان ومحدودية إدراكاته العقلية . قال القديس أغسطينوس : ان الإنسان لعاجز عن إدراك ذاته فكيف يقوى على إدراك الكون الغير المتناهي ؟ إن لاهوته نور يُغش الأنظار ويحّير الأذهان . إن عقلنا البشري ، يُهدينا إلى حقيقة هي أن الله قد تسامى على كل ما نستطيع أن نتصوره من عظائم ، فلوا استطعنا إدراكه تمام الإدراك لبطل أن يكون إلهاً . سر الثالوث الأقدس من أعظم الأسرار المسيحية : لذلك يقصر عقلنا عن فهمه وإدراكه ، لذلك ناداه القديس اغسطينوس قائلاً : ” أيها الثالوث الإلهي أنت وحدك تفهم كونك ثالوثاً إلهياً . وان الناس والملائكة عاجزين عن الإحاطة بك علماً ، وفهمك ومعرفتك ” . توصل كثيرون من الفلاسفة إلى أن يبرهنوا بآجّل البراهين على أن الله موجود وإنه واحد ولا يوجد غيره ، وأن وجود آلهة كثيرين غير ممكن . أما كون الله ذو ثلاثة أقانيم وهي : آب وأبن وروح قدس متحدة في الجوهر وذات طبيعة واحدة . وأما كون الثلاثة أقانيم إلهاً واحداً فذلك سر محجوب عن عقول العلماء والحكماء ، هو شمس تعمي من يتفّرس في أشعتها . ولا نعرف هذا السر إلا من سر الإيمان . ويعلمنا هذا الإيمان أن الأب أي الإقنوم الأول لما تأمل ذاته منذ الأزل وفهم جوهره ، ولذا ولِد الإبن ، أو ممكن القول أصدر مفهومه منذ الأزل أيضاً ، ومفهومه هذا ليس عرضياً بل جوهرياً ولذا يدعى الإبن : “ابن الله ” أو ” الكلمة الأزلي ” ، وهو مساوٍ في جوهره للأب الذي ولِده . ومن ثم هو إله مثله . ويُفيدنا الإيمان أن الأب والإبن برؤية أحدهما الأخر منذ الأزل وبسرورهما الواحد بالأخر سروراً غير متناه ، تبادلا حُباً غير متناه ، وهذا الحُب ليس بغرضٍ كما هو بين الخلائق ، ولكنه جوهر يصدره الآب ويصدره الابن معاً ، وكأنه من مصدر واحد لا من اثنين ، وهو الإقنوم الثالث الذي دُعي : ” الروح القدس ” . إننا نؤمن بهذا السر ولو كنا لا نفهمه ، ولا نُدرِكه بعقلنا البشري ، لأن المسيح شمس العدل ، والإله الذي برهن بأعماله على ألوهيته ، قد أمرنا أن نؤمن به , و نعلّم جميع الأمم ونعمدهم بأسم الأب والابن والروح القدس . ولكن كما نعلم أن هذا السر هو من أصعب الأسرار في إيماننا المسيحي ، ولكن يجب أن نعرف أنه أساس ديانتنا المسيحية وأساس حياتنا الروحيّة . مع الأسف قليل الذين يتكلمون عن هذا السر المقدس . والذين تكلمون عنه من الصعب أن يشرحوه كما يجب . فلذلك يجب علينا جميعاً أولاً وقبل كل شيء الإيمان به . ونطلب في هذا اليوم المقدس نعمة الروح القدس لتفهم هذا السر العظيم . لدينا الكثير من التشبيهات التي تقربنا من معرفة سر الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس الله واحد . نكتفي بتشبيهين : ١ ـ الشمس : نور و حرارة ٢ ـ الإنسان : بالعقل و التفكير ، يُعبر به بالكلام . ولكن لا يمكننا أن نتوقف عند هذه التشبيهات فقط ، فلدينا الكثير من الآيات في الكتاب المقدس تشرح لنا أن الآب والأبن والروح القدس إله واحد ، إليكم بعض الآيات : ١ – في العهد القديم : نلاحظ وبالأخص في الفصل الأول والثاني في سفر التكوين عندما يقول الله لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا ( تكوين ١ : ٢٦ ) ، كلمة لنصنع تعبر عن الله الآب والابن والروح القدس . وأيضاً الآية التي تقول : ” ان الرب الإله جبل الإنسان تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة الحياة ، فصار الإنسان نفساً حية ” . هذه الروح الذي خرجت من الله هو : ” الروح القدس ” . ٢ – في العهد الجديد يوجد الكثير من الآيات منها : بدء إنجيل القديس يوحنا يقول : ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان لدى الله والكلمة هو الله ” ( يوحنا ١ : ١ ) . وأيضاً في إنجيل القديس يوحنا عندما قال الرّبّ يسوع لفيليبس : ” من رآني رأى الأب ” ( يوحنا ١٤ : ٩ ) ، من خلال هذه الآية يوضح لنا القديس يوحنا العلاقة العميقة بين الآب والأبن والروح القدس بالإتحاد في الفكر والمحبة والعمل والخليقة . * ” وبعد أيُّها الإخوة ، فافرحوا وانقادوا للإصلاح والوعظ ، وكونوا على رأيٍ واحد وعيشوا بسلام ، وإله المحبّة والسلام يكونُ معَكم . ولتكن نعمة رَبِّنا يسوع المسيح ومحبةُ الله وشركة الرُّوح القُدُس معَكم جَميعاً ” ( قورنتس الثانية ١٣ : ١١ و ١٣ ) * فالله الآب يحبنا إلى حد أنه يدعونا ويجعلنا أبناءه بالتبني : ” أنظروا أية محبة منحنا الآب حتى ندعى ونكون أبناء الله ” (يوحنا الأولى : ٣ ) . * والله الابن وسيط يبذل دمه وفاءً لديوننا ، ” فإن الله أحبَّ العالم حتى إنه جاد بإبنه الوحيد لكي لا يهلك كلُّ من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبديّة ، فإن الله لم يرسل إبنه إلى العالم ليدين العالم ، بل ليخلص العالم ” ( يوحنا ٣ ١٥ – ١٧ ) . * يسوع الهيئة المنظورة للإله الغير منظور, ” من رآني رأى الآب ” ( يوحنا ١٤ ٩ ) وهو الكلمة الأزلي . * والله الروح القدس : صديق لنا يهتم ليل نهار بتقديسنا ، ونور ينوِّر ظلام حياتِنا ، ومُعزي لنا في مضايقنا وشدائدنا وصعوباتنا ، ومُلهم لكل الأفكار الصالحة وكل العواطف والمقاصد الحسنة ، ومصدر للنعم التي تمس القلب وتهدي وتجعل الإنسان قديس . * الآب هو محبة : لأنه شاء أن يكون أباً لنا أيضاً ، أباً بالخلق ، لأنه خالقنا ووهب لنا الكيان ، أباً بالعناية ، إذ يعتني كل العناية بالأبناء الذين وضعهم في هذه الدنيا ، وأباً بالانتخاب لأنه منذُ الأزل قد تصّورنا أبناءه بالتبني بالأحشاء عينها التي ولد منها كلمته ، وأباً بتجديد ولادتنا بالمعمودية ، وأباً بالنعمة المقدسة التي تخولنا روح أبنه مع الثقة أن ندعوه أباً . * وكذلك أبن الله يسوع المسيح كله محبة : فأنه لأجلنا قد تأنس وتجسّد من العذراء مريـم ، ولأجلنا ضحى بذاته ولا يزال يدعونا إخوة له أمام أبيه وروحه القدوس ، ومن محبّته أجلسنا على مائدته السماوية. * وأيضاً الروح القدس كله محبة : لأنه محبة الآب والابن بالذات ومساوي لهما منه ، وقد أعطانا الأبن ذاته وبه فاضت المحبة في قلوبنا ، به تصبح صلواتنا حسنة وتحيا فينا كما في هيكله لتصلح نقائصنا وتعلمنا الفضائل وتجعلنا قديسين . فليت لكل واحد منا ثلاثة قلوب لنخصص واحداً منها لكل أقنوم إلهي ، لكننا نتعزى بكوننا إذا أحببنا الله الواحد أحببنا في الوقت نفسه الأقانيم الثلاثة ، لأن لثلاثتهم الطبيعة الواحدة عينها . وبما أننا أبناء الثالوث الأقدس فيجب علينا جميعنا أن نتشبه به بتوحيد قلوبنا معاً بالمحبة ، وتكون محبتنا ليست بالكلام فقط بل بالعمل والحق حتى نكون مثل المسيحيون الأولون الذين كانوا شهادة حية لمحبة بعضهم لبعض حتى كل من رآهم كان يقول : ” أنظروا كم يحب بعضهم بعضاً ” في تلك اللحظة فقط يمكننا أن ” نذهب ونعلم جميع الأمم ونعمدهم بإسم الأب والأبن والروح القدس ، والرب يسوع سيكون معنا إلى نهايةِ العالم ” ( متى : ٢٨ : ١٩ – ٢٠ ) .