الورشا في رسالة الميلاد: هو عيدُ السلام والمصالحة مع اللهِ ومع الذات ومع الانسان

وجه النائب البطريركي على منطقة جونيه المطران يوحنا رفيق الورشا، رسالة الميلاد، الى جميع أبناء وبنات نيابة جونية المارونية من الأبرشية البطريركية، جاء فيها: “يسرُّني، في السنة الأولى من تولّيَّ نيابة جونية من الأبرشية البطريركية أن أرسل إليكم رسالة الميلاد هذه، سائلًا طفل المغارة العمّانوئيل، يسوع المسيح، أن يبارك حياتكم ويمنّ عليكم بنعمه الغزيرة، لتبقوا ثابتين في محبته وشاهدين لحضوره أينما حللتم.
في ضوء اللوحات الميلادية التي رأيناها في زمن التجسّد سأتوقّف عند عشرِ نقاط للتأمّل والتفكير، أسلّطُ فيها الأضواءَ على موقفَين من هذا الحدث الخلاصي: موقف إيجابي وموقف سلبي. الموقف السلبي هو موقف الذين لا يعيشون الميلاد فيمرّ عليهم كفيلم سينمائي ينتهي في وقتِه، والموقف الإيجابي، هو موقف الذين يتذوّقون أبعاده ويُبحرون في سبر غوره ويحجُّون يومًا بعد يوم إلى يسوع طفلِ المغارة ذلك الرجاءِ الصالح الذي لا يُخيِّب.
هو بعيدٌ عن الميلادِ الحقيقي مَن يتفوّهُ بكلماتٍ وكلماتٍ فارغة من مضمونِها، رنّانةٍ، لا بل تحملُ النميمة أو تزرعُ الفتنة أم تقتصرُ على انتقاداتٍ لاذعةٍ هدّامة. وهو قريبٌ من الميلاد ويعيشُ في خضمِّه مَن يستوحي كلماتِه من الكلمةِ المتجسّدة يسوع. فأمامَ تلك الكلمة تسقطُ كلُّ الكلمات ويُعاش الصمتُ التأملي والانذهال كالذي عاشوه مريم ويوسف والرعاة في هجعةِ الليل. فهلّا نُدرك عذوبةَ صمتِ الليل الذي يولّد السكينة بحيث نسمعُ فقط كلمةَ الله يسوع ونصغي لهمساته هو الذي صارَ بشرًا وحلَّ فينا ومعنا وبيننا ؟
لا يكونُ في الميلادِ الحقيقي الذي تُبهرُه الانوار الخافتة للعيد، بل هو مَن يملأ عينَيه وضميرَه وقلبَه من النور الحقيقي، نورِ الطفل يسوع، الذي بدَّد ظلماتِ الليل واضاءَ طرقات الحياة؛ ذلك الذي تنبأَ عنه اشعيا النبي: “الشعبُ السالكُ في الظلمة ابصرَ نورًا عظيمًا، والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهمِ النُّور” (أش 9: 2). هو شمسُ العالم الذي حلَّ عيدُه مكان العيد الوثني عيدِ الشمس. إنّه النجمُ الساطعُ في عتمةِ الليل يسطعُ نورُه في نفقِ حياتِنا وبنتشلُنا من سوادِ الشكّ والخوفِ واليأسِ والحقد…، فينتعشَ فينا الايمانُ ويتوطّدُ الرجاء ويُزهر الحبّ.
بعيدٌ هو عن روحيّة عيد الميلاد مَن يعيشُه كصفحةٍ عابرةٍ من صفحاتِ التاريخ معتبرًا يسوع ليس أكثر من شخصٍ تاريخي انضمّ إلى لائحةِ الأسماء التي أُحصيت في ايام أغسطس قيصر…. وهو قريبٌ من منطقِ الميلاد مَن أيقن أنّ الربَّ يسوع دخلَ التاريخ ليُدخلَنا في تاريخٍ مع الله ويجعلَ تاريخَنا وزمنَنا مقدّسَين. وفي ملءِ الزمن على حدِّ قول القديس بولس في رسالته إلى أهل غلاطية وُلد من امرأة ليذهبَ بنا إلى أبعد من التاريخ فندخلَ في أبديةِ الله ونتعالى عن الوقت لنعيشَ حالةَ الحضور مع العمانوئيل الهنا معنا، فتُكتبُ عندها أسماؤنا في سفرِ الملكوت.
لم يلمُسْ الميلادُ قلبَه مَن يقتصرُ عيدُ ميلادِ يسوع بالنسبة له على ولادةٍ جغرافيّة في قريةٍ صغيرة، في بيتَ لحم. إنما مَن جعلَ من قلبِه وحياتِه وعائلتِه مساحةً يولدُ فيها فيحملُه أينما حلّ كبشرى سارّة ويُعلنُها لكلّ مَن يلتقيه في يوميات حياته.
كيف نعيشُ الميلاد ونحن نغرقُ في الخطيئة ونمعنُ في الحقد ونسترسلُ في التكبّر؟ أوما ينبغي أن نغرفَ من طفل المغارة نعمةَ الخلاص وبراءةَ الأطفال ولغةَ الحبّ، حبِ اللهِ للبشرية؟ أما يجدرُ بنا أن ننهل من مدرسةِ تواضعه، هو الذي حمَلَ اوجاعَنا وإنسانيّتَنا ولَبِس طبيعتَنا البشريةَ الضعيفة؟
لا يدورُ في فلكِ الميلاد الحقيقي مَن يعيشُ في مستنقعٍ لا يتحرك بحيث لا يبادرُ للتفتيش عن جوهرِ العيد يسوع، ويكتفي بذاتِه وينغلق في أنانيّته، بل إنّما هو مَن يصرِف أوقاته ليفتشَ عن يسوع ويبحثَ عنه بحثًا دقيقًا. فهذا ما نجدُه بارزًا في إنجيل لوقا. اللهُ يبحث عن الإنسان الضالّ والخاطئ… لِنُجِب على هذه المبادرةِ الإلهية فنبحثَ عنه ونبادرَ ونتحركَ ونلتقيَه متشبّهين بالرعاة الذي قالوا: “سيروا بنا الى بيت لحم”، وبالمجوس الذين جاؤوا من بلاد فارس واهتدَوا بالنجم الذي قادهم إلى المغارة… تعالوا نبحثُ عن يسوع ونقرأُ العلاماتِ التي يُظهرُها لنا لنسيرَ نحوه.
لا يعيشُ الميلاد مَن لا يوجدُ في قلبِه سلامٌ داخلي، وعن عائلته غاب السلام، لانّ الميلادَ هو عيدُ السلام والمصالحة مع اللهِ ومع الذات ومع الانسان! هو عيدُ العائلة! فالطفلُ الإلهي أرادَ أن يحلَّ ضيفًا على البشرية وسط عائلةِ الناصرة الوديعة المتواضعة المليئة بالحبّ والحنان والسلام.
إخوتي وأخواتي الأحباء، أشيرُ إلى هذا وأنا معنيٌّ بالدرجة الأولى بكلِّ هذه التساؤلات التي أطرحها معكم؛ فالأسقف، الكاهن ، الراهب، كلّ راعٍ لا يقتدي بالرعاة الذين كانوا يتناوبون السهر ويقدّمون ذواتِهم لحَمَل الله إذ لم يكن لديهم شيءٌ يقدمونه فليسوا برعاة يعيشون ديمومةَ حالة الميلاد، بل رعاةٌ يرعَون نفوسهم . جميلٌ السهر كالرعاة مع يسوع … ونحن جميعنا، مؤمنين ومؤمنات، فلنسهر ونصلّي مع الرعاة ساجدين له! هو خبزُ الحياة…
غاب عن بالِه جوهرُ الميلاد مَن يلتهى بالهدايا وينسى اثمنَ هديّةٍ في الوجود، هديّةِ اللهِ للبشرية! تعالوا نستقبل منه هديّة ابنه يسوع، الذي افتقدنا برحمته، إذ أخلى ذاتَه على حدّ قول القديس بولس في رسالته إلى أهل فيليبي متّخذًا صورة العبد (فيليبي 2: 7) ، وشابهنا في كلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة.
في النقطة العاشرة والأخيرة، ابلورُ كلَّ ما كتبتُه بصلاةٍ خاشعةٍ امام طفل المغارة: اسجدُ لك يا طفل المغارة… سقطَتْ كلماتي امامك يا كلمةَ الله المتجسد. اصمتُ متأملاً في سرِّ حبِّك اللامتناهي لنا على الرّغم من ضعفنا ومحدويتنا ومعطوبيتنا… انتشلْني من مستنقع الخطيئة واخلقْني إنسانًا جديدًا ينبضُ حبًّا لك، انتَ الحاضرُ في سرِّ القربان والفقير والجائع والمهمَّش والمشرّد واللاجئ. اجعلني لا أملّ ولا أتعب من التفتيش عنك مع المجوس المغبوطين وفي كلِّ مرّة التقيك اعودُ لأبحث عنك من جديد لأتذوَّقَ نكهةَ الحياة معك وفيك، آمين. وُلد المسيح! …هللويا”.