منذ أن وطئت قدما القديس البابا يوحنا بولس الثاني أرض لبنان حاملًا الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان”، ثمّ جاء البابا بندكتوس السادس عشر ليقدّم من بيروت إرشاده للشرق الأوسط “شركة وشهادة”، صار هذا البلد الصغير مساحةً لرسائل كبرى تتخطّى حدوده الجغرافية إلى رحاب الشرق والعالم. اليوم، تتجه الأنظار مجدّدًا إلى بيروت، إلى قلب ساحة الشهداء تحديدًا، حيث يستعدّ اللبنانيون للقاء البابا لاوون الرابع عشر في حدث مسكونيّ ولقاء بين الأديان، يعلّق عليه الكثيرون الآمال في زمنٍ يضجّ بالتشنجات والانقسامات.
في هذا السياق، عُقد في المركز الكاثوليكي للإعلام مؤتمر صحافيّ خُصّص للإعلان عن ترتيبات اللقاء المسكوني وبين الأديان الذي سيُقام عند الرابعة من بعد ظهر الاثنين في الأوّل من كانون الأوّل المقبل في ساحة الشهداء، ضمن الزيارة الرسولية لقداسة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان من 30 تشرين الثاني إلى 2 كانون الأوّل.
أبو كسم: “لبنان واحد… أبناء للسلام وصانعي السلام”
في مستهل المؤتمر، أشار مدير المركز الكاثوليكي للإعلام والمنسّق الإعلامي الكنسي للزيارة المونسنيور عبده أبو كسم إلى أنّها الزيارة الثالثة على مدى سبعة وعشرين عامًا لحبر أعظم إلى هذا البلد “الصغير في مساحته والكبير في معانيه، الفريد في عيشه الواحد بين المسيحيين والمسلمين”، لافتًا إلى أنّ ميزة لبنان أن يكون “واحدًا”، كما يقول شعار اللقاء، بجميع أبنائه على تعدّد أطيافهم، رغم حروب الماضي وجراحه، “إذ نبقى نتطلّع دائمًا إلى المحبة والسلام والرجاء ونواجه كل أشكال الشرور بعمل الخير والمحبة”.
مراد: حجّ سلام لا مجرّد بروتوكول
توقف رئيس اللّجنة الأسقفية للحوار المسيحي – الإسلامي في لبنان ومنسّق اللقاء المطران مار متياس شارل مراد عند البعد الروحيّ والتاريخيّ للقاء المرتقب، معتبرًا أن لبنان يعيش “لحظة تاريخية مميّزة” مع الاستعداد لاستقبال البابا لاوون الرابع عشر في أول زيارة رسولية له خارج أسوار الفاتيكان. وشدّد على أنها ليست زيارة بروتوكولية، بل “حجّ سلام ورسالة محبة” تتجاوز الأطر الرسمية لتبلغ “عمق الإنسان وضميره”.
وعن اللقاء المسيحي – الإسلامي في ساحة الشهداء، أوضح أنه “ليس مجرّد مناسبة رمزية، بل فعل إيمان بالحوار، وإعلان رجاء بأن الكلمة الطيّبة قادرة على أن تهزم الخوف، وأن اللقاء الصادق يستطيع أن يبني سلامًا حقيقيًا لا يقوم على المصالح بل على الاحترام المتبادل والاعتراف بالكرامة الإنسانية”.
ذكّر مراد بأن التجربة اللبنانية التاريخية في العيش المشترك جعلت من هذا البلد “مساحةً تتجسّد فيها كلمات قداسة البابا وتتحقق”، لأن المسيحية والإسلام “لا يدعوان إلى التسامح فحسب، بل إلى لقاء صادق وحقيقي يقوم على الاحترام المتبادل، والإيمان بأن الاختلاف ليس تهديدًا بل عطية من اللّه تهدف إلى بناء شركة إنسانية أعمق”. من هنا، اعتبر أن هذه الخبرة تبقى “ميثاقًا روحيًا للعيش المشترك ودليلًا للطريق نحو السلام الأهلي”.
وفي مقاربته واقعَ اليوم، لم يخفِ المطران مراد أن الطريق أمام هذا اللقاء “لا يخلو من العقبات”، من جراح الماضي وشكوك الحاضر وتصاعد التطرّف والأزمة الاجتماعية التي تهدّد نسيج المجتمع. لذلك، شدّد على دعوة البابا إلى “تجديد الالتزام بحوار متجذر في الحقيقة، مغذى بالصلاة وموجّه نحو الخير العام”، كي تكون الزيارة رسالة رجاء لشعب أنهكته الأزمات، ودعوة للقيادات الدينية والسياسية كي تجدّد التزامها بخدمة الإنسان أولًا، وتعزيز ثقافة الحوار والسلام.
سويف: من أنطاكية إلى بيروت… وحدة الفصح وشهادة الرجاء
رئيس اللّجنة الأسقفية للعمل المسكونيّ ومنسّق اللقاء المطران يوسف سويف قرأ الزيارة من زاوية مسكونية لافتة، فرأى أنها “حدث يحمل للكنيسة في لبنان وللوطن بأسره نفسًا جديدًا من الرجاء”، مؤكدًا أنها ليست زيارة بروتوكولية بل “لقاء نعمة” يذكّر بأن الكنيسة، بكل عائلاتها، مدعوّة إلى السير معًا في روح واحدة وتجديد شهادتها في هذا الشرق الذي حمل اسم المسيح منذ أن نادت به أنطاكية أولًا.
عاد سويف إلى أنطاكية، إلى الجذور الأولى للبشارة، ليذكّر بأن الوحدة الحقيقية لا تُبنى على المصالح والحسابات، بل على الإيمان بالمسيح الأساس. ومن هناك “يتجدّد النداء أن تكون الكنائس واحدة في القلب وإن اختلفت في الطقوس، واحدة في الروح وإن تمايزت في التقاليد، واحدة في الشهادة لأن الرب واحد وإيماننا واحد”.
أما عن السلام، فشدّد سويف على أنه “ليس ثمرة تفاهمات سياسية، بل ثمرة قلوب تتحد بالمسيح وتطلب وجهه”. وحين يتحقق السلام الداخلي “ينبثق منه سلام يلمس الجماعات ويتجاوز كلّ خوف أو انقسام”، لتصبح وحدة الكنيسة “شفاءً للقلوب واستعادة لفرح الشهادة في المسيح”. ومن هنا، رأى أن لبنان، بتعدّديّته وغناه الروحي، “أرض مهيّأة لمسكونية حيّة تُلهم العالم” وأن الزيارة البابوية المرتقبة تأتي لتقول للكنائس: “كونوا معًا نورًا وسط الظلمة ورجاءً وسط الشك، وسلامًا وسط العاصفة”، لأن حضور الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى “ليس مشهدًا احتفاليًا بل إعلان أن المسيح هو الذي يجمع ويقود ويبارك هذه المسيرة”.
“سوليدير” وساحة الشهداء: قلب بيروت مساحة للقائه
ممثلة شركة “سوليدير” ميشلين أبي سمرا عبّرت عن فخر الشركة بأن تكون شريكًا في هذه اللحظة الاستثنائية، بوصفها “في صميم مشروع إعادة إحياء وسط بيروت”، من خلال استضافة اللقاء وتحضير فضائه العام بكل تفاصيله، “لتستعيد ساحة الشهداء دورها الطبيعي كمساحة جامعة للتسامح والإيمان وقبول الآخر”.
أشارت أبي سمرا إلى أن “سوليدير” تتشرّف للمرّة الثالثة بتنظيم واستضافة زيارات الحبر الأعظم إلى وسط المدينة، بما يعكس خبرتها واستدامة بنيتها التحتية والرؤية التخطيطية التي يتميّز بها قلب بيروت. وقالت إن اختيار ساحة الشهداء لم يأتِ من فراغ، فهي “ساحة تختصر تاريخ لبنان ومعناه”، في مدينة “نهضت مرارًا من الألم لتبقى منارة للحوار ومنصّة للتلاقي بين أبناء الوطن الواحد والإنسان الواحد”.
وأوضحت أن اللقاء لن يكون سياسيًا أو خطابًا فقط، بل سيتخلّله بعد فني – روحي، إذ تشارك فيه “جوقة بيروت ترنم – السيستِما”، جوقة مؤسّسة الإمام موسى الصدر وجوقة دار الأيتام الإسلامية، لتقديم مختارات من التراتيل والإنشاد أُعدّت خصيصًا للمناسبة، في صورة حيّة عن روح بيروت التي “احتضنت التنوّع وجعلته قيمة إنسانية وثقافية مشتركة”. وختمت بالتأكيد أن “روح بيروت لا تنطفئ، وأن رسالتها في العيش المشترك تبقى إحدى أهم الهدايا التي يمكن أن يقدّمها لبنان للعالم في زمن يحتاج فيه الجميع إلى مزيد من محبة وسلام”.
دعوات محدّدة ورسالة مفتوحة إلى العالم
في البعد التنظيمي، شرحت عضو لجنة تنظيم اللقاء الإعلامية ليا عادل معماري أن اللجنة المعنية بتنسيق اللقاء، وبتوجيه من اللجنة المركزية في الفاتيكان، عملت مع فرق ولجان متعدّدة على تنظيم هذا الحدث المسكوني الوطني على “أرفع المستويات”، بحيث تشمل الدعوات قادة الطوائف المسيحية كافة والمرجعيات الإسلامية الكبرى، إضافة إلى الشخصيات المعنيّة بالحوار بين الأديان حصرًا.
أوضحت معماري أن الدعوات محصورة بالأشخاص المذكورين، وهي دعوات خاصة وليست مفتوحة للجمهور، نظرًا إلى أن عدد المقاعد هو 330 مقعدًا فقط، “واللجنة ملزمة بذلك”. وقد تمّت عملية اختيار الأسماء من مختلف المناطق والمحافظات وفق مبادئ اللقاء المسكوني والحوار بين الأديان، وعبر اتصالات رفيعة المستوى مع أعضاء اللجنة.
وأعلنت أن بطاقات الدعوات ستُسلّم فور جهوزها بالتنسيق مع اللجنة المعنية، آملة أن تمنح زيارة قداسة الحبر الأعظم “جرعة أمل ورجاء وسط عتمات الدهر”.
ماذا سيقول البابا لاوون الرابع عشر؟
بين ساحة الشهداء التي عرفت المآسي والحروب والانتفاضات، وبين تاريخٍ لبنانيّ مثقل بالأزمات السياسية والاقتصادية وبالتشنّج بين مكوّناته، يتهيّأ هذا اللقاء ليكون أكثر من محطة في برنامج زيارة بابوية. فكما حمل البابا القديس يوحنا بولس الثاني إلى لبنان “رجاء جديدًا”، وكما جاء البابا بندكتوس السادس عشر برسالة “شركة وشهادة” للشرق الأوسط، تتطلّع الكنائس اليوم، ومعها أبناء سائر الأديان، إلى الكلمة التي سيلقيها البابا لاوون الرابع عشر في بيروت: ما هي ملامح الرسالة الجديدة؟ كيف ستتلقاها الكنائس المختلفة؟ وما هو صداها لدى المرجعيات الإسلامية وسائر المكوّنات اللبنانية؟
تتساءل الأوساط عمّا إذا كانت كلمة البابا، في قلب العاصمة وفي ساحة تحمل اسم الشهداء، ستتخذ أيضًا بعدًا سياسيًا بقدر ما هي روحية: هل يدعو إلى تغليب منطق الدولة على منطق الصراع؟ إلى احترام الإنسان قبل الحسابات؟ إلى نبذ العنف والحقد والاصطفافات القاتلة؟ الأسئلة كثيرة، لكن اليقين واحد: أن صوت روما، حين يهمس من بيروت، غالبًا ما يجد طريقه إلى ضمائر الشعوب والحكّام على السواء.
في الأوّل من كانون الأوّل، عند الرابعة بعد الظهر، ستتحوّل ساحة الشهداء التي حملت وجوه الشهداء وصرخات الساحات وغبار الانفجارات إلى خيمة صلاة وحوار. تحت أنظار المسجد والكاتدرائية، وبين أعلام الكنائس والمرجعيات الإسلامية، سيجلس البابا لاوون الرابع عشر ليخاطب لبنان الرسالة، لا لبنان المتعب فقط، وليقول مع الذين يجتمعون حوله إن العيش المشترك ليس شعارًا في بيان، بل درب صليب يوميّة تُحمل بالرجاء.
قد لا تمحو كلمة واحدة جراح العقود، ولا يبدّل لقاء واحد كلّ معادلات السياسة. لكن هذا اللقاء المسكوني بين الأديان، في المكان الذي تختصر حجارتُه تاريخَ الألم والنهوض، قد يكون بداية صفحة جديدة يُكتب عنوانها من الإنجيل والقرآن معًا: “السلام لكم”.
اللبنانيون، بكل طوائفهم ومشاربهم، ينتظرون أن يأتي البابا لاوون الرابع عشر “زارعًا الأمل”، يحمل إليهم نفَسًا جديدًا من الرجاء، ويذكّرهم بأنهم، مهما قست الأيام، مدعوّون أن يكونوا “أبناء السلام وصانعي السلام”. وإذا كان التاريخ قد كتب في لبنان فصولًا من الدم والدمع، فلعلّ هذا اللقاء في ساحة الشهداء يفتح، مع البابا والكنائس وسائر الأديان، فصلًا جديدًا يليق بهذا الوطن: وهو فَصلٌ يُبنى على الحقيقة والعدالة، ويُختم بالصلاة من أجل أن يبقى لبنان، حقًا وفعلًا، أرض لقاء لا أرض صراع، ووطنًا يُضيء من جراحه شمعة رجاء للعالم بأسره.
في ساحة الشهداء… لبنان يتهيّأ لـ *حجّ سلام* جديد






