المطران عون ممثلا البطريرك الماروني في ندوة في جبيل: لنكن ممن يساهمون في صناعة سلام حقيقي مبني على الحقيقة وحق الشعوب

نظم “المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والإعلام”، ندوة جبيل الثقافية الدولية بعنوان “الحوار وبناء السلام”، لمناسبة مرور 10 سنوات على “إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الإنساني 2015″، في قاعة الأباتي عمانوئيل خوري – أنطش مار يوحنا مرقس، تحدث فيها ممثل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي المطران ميشال عون، رئيس جامعة القديس يوسف في بيروت البروفسور سليم دكاش والدكتورالعميد علي عوّاد، في حضور النائب السابق قاسم عبد العزيز ممثلا الرئيس سعد الحريري، الرئيس السابق للبرلمان العربي عضو البرلمان الإماراتي احمد الجروان، الشيخ مظهر محمد حمدي ممثلا مفتي الحمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان، الشيخ سامي عبد الخالق ممثلا شيخ العقل لطائفة الموحين الدروز الشيخ سامي ابي المنى، المحامي شادي البستاني ممثلا وزير الإعلام د. بول مرقص، قائمقام جبيل نتالي مرعي الخوري ممثلة وزير الداخلية والبلديات العميد احمد الحجار، العميد الركن زاهر صوما ممثلا وزير الدفاع الوطني العميد ميشال منسى، النائبين زياد الحواط وملحم خلف، الدكتور ادونيس العكرة ممثلا رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل ، المحامي فادي ظريفة ممثلا رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع، النائب السابق ناظم الخوري ، نقيب المحررين جوزف القصيفي.
كما حضرالندوة العميد الركن فادي اسطفان ممثلا قائد الجيش العماد رودولف هيكل، العميد جوزف مسلم ممثلا المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء رائد عبدالله، العقيد روك صفير ممثلا المدير العام للامن العام اللواء حسن شقير، الملازم اول يوسف ناكوزي ممثلا المدير العام لامن الدولة اللواء الركن ادغار لاوندوس، رئيس بلدية جبيل الدكتور جوزف الشامي، رئيس رابطة مختاري قضاء جبيل كريستيان القصيفي، مستشار رئيس الجمهورية للشؤون القانونية الدكتور أنطوان صفير، رئيسة “جامعة اللاعنف وحقوق الانسان” الدكتورة الهام كلاب، رئيس “جهاز الشهداء والمصابين والاسرى” في حزب “القوات اللبنانية” شربل ابي عقل ومهتمين.
بعد النشيد الوطني وكلمة عريفة الاحتفال نور فيّاض، القى رئيس الدير الاباتي سيمون عبود كلمة قال فيها: “في حضرة السلام ، تصمت اللغات ليتكلم الحوار . وفي زمن يضج بالصخب والانقسام ، نلتقي اليوم لنصغي معا الى همس الله في التاريخ ، الى نبض الحقيقية في قلب الانسان . نجتمع باسم الضمائر الحية التي تؤمن ان الحوار هو اسمى تجليات وجوه الشجاعة ، وان السلام ليس هدنة فحسب ، بل وجهة تبنى على الكرامة والانسانية والعدالة والاحترام ، لتكون ندوتنا صلاة منفتحة ، وفكرا متواضعا ، ويدا ممدودة نحو غد يليق بكرامة الانسان ، وليخرج من عمق هذا اللقاء ، صوت لبنان من جديد ، صوت الحقيقية والمحبة والتسامح ، صوت الحوار الذي ينقذ ما تبقى من الحلم” .
عوّاد
ورأى عواد في كلمته ان “الحوار ليس إطلاقا أن تستدعي آخرين الى الطاولة أو المنبر وتفرض وتتحكّم وتقول: “يجب أن نفعل هكذا أو فلنذهب نحن والوطن الى الجحيم” والحوار هو ليس كما يمارسه أو يتخيّله أغلبية السياسيين والحكام في دول نامية أو لدى القوى العظمى ودول القرار. انه حديث الأفكار وتلاقحها ، وتشارك الطروحات وتلاقي القيم الاخلاقية والانسانية، هو علم بحد ذاته يجمع تحت جناحيه كل العلوم دون استثناء كي ينتج حلولاً لكل الازمات والنزاعات والحروب من اجل تحقيق الخير العام ،هو ليس تقاتل المصالح بل تكاملها ، هو ليس صراع النفوذ بل تفاهمها ، هو ليس بالكيدية والثأر والانتقام بل بالتلاقي في مساحة مشتركة حدودها الحق وسماؤها الانسانية وهواؤها السلام”.
وقال: “يعتقد الحكام والسياسيون ان السلام المنشود بعد اي حوار هو حالة اللّاحرب التي تعيشها المجتمعات والدول، هم مخطئون عن جهل أو تجاهل أو قصور علمي ، فالسلام هو أكثر عمقاً في الدلالة الجذرية ، هو حالة يعيشها العقل مع الذات قبل أن يعيشها مع ذات الآخر لأن السلام يبدأ من العقول وفي العقول فقط يبدأ السلام ،ومن هذه المسلّمة نذهب الى القول بأنه على من يريد السلام من نخب وحكام أن يبدأ بتشكيل فكر الانسان كي يعيش حالة السلام في سلوك مجتمعي دائم وليس سلوكا ظرفيا ، إذ أنه من المستحيل أن يعيش الفرد حالة سلام دائم تفرضها اتفاقيات أو معاهدات أو تفاهمات أو تسويات يضعها السياسيون، وبالتالي يجب العمل على تشكيل الفكر الذي لا يتنازل عن نظام القيم الانسانية وحقوق الانسان مهما كانت الأزمات والمحن والتجارب صعبة”.
وتابع: “على الذين يريدون السلام فعلاً لا قولاً أن يبدأوا في بناء أساسات تشكيل الفكر الانساني عبر أدوات ثلاث : التعليم ومن ضمنه التعليم الإيماني ذو الجوهر الديني ، الثقافة، ووسائل الاعلام. فإذا لم تبدأ هذه الأدوات ممارسة دورها التأثيري على الشخصية الانسانية منذ الطفولة فإن الفرد سيعيش حالة صراع مع الآخر وستتغذّى من غريزة حب البقاء والخشية على ثبات الوجود وما يتبع ذلك من خوف على الدين والعقيدة والتاريخ والحضارة والتقاليد وعلى كل المكونات الفيزيولوجية والنفسانية لهرم ماسلو ، فهذه الحالة بالتحديد تعيشها اليوم المنطقة المتفجرة من الشرق الأدنى وشمال أفريقيا ،ومن ضمنها لبنان بالتأكيد .إن الوضع اللبناني، واستطرادا الوضع لدى أغلبية البلدان العربية صعب ومحزن ومحبط وماساوي وكارثي خصوصا عندما نتأكد بصورة علمية بحثية أن الخطوة الأولى التأسيسية في تشكيل الفكر الانساني لم تبدأ بعد ، ولن تبدأ ونتساءل : ماذا ينتظر الأجيال القادمة من ويلات؟”
وقال: “إذا أجرينا مقارنة بسيطة وسريعة بين الحقائق والمسلّمات “العلمية” التي ذكرناها وبين ما تعيشه اليوم مجتمعاتنا اللبنانية ومجتمعات العالم حيث الحروب تشتعل، نصل الى تأكيد تفاقم الدمار الإنساني في المستقبل القريب والبعيد ، دمارٌ يقوم على تمجيد العنف والقوة المتوحشة من أجل الوجود والنفوذ والثروات والممرات ، وسيذهب الحوار ومن ثم السلام حلماً إلّا اذا كانت هناك من صحوةٍ إنسانية”.
أضاف: “عندما نظرتُ في أساسات تشكيل الفكر الانساني استخلصت أن ثقافة الحوار الانساني هي ركيزة بنيوية في بناء الدولة – أية دولة – وبالتالي في بناء السلام . وعندما بحثت في كل الاعلانات والاتفاقيات والمعاهدات لم أرصد اية وثيقة علمية دولية تتضمن الدعوة الى اعتماد نهج الحوار بدل اللجوء الى العنف والسلاح والتهديد والوعيد والقوة ، فبادرنا الى عقد مؤتمر علمي في جامعة جنيف-سويسرا ، وأطلقنا “اعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الانساني 2015″ ونحن نحيي اليوم ذكرى مرور عشرة سنوات على وضعه واطلاقه ، اعلان اكتسب أهمية بالغة كأول نداء عالمي يدعو المجتمعات البشرية والدول الى اعتماد ثقافة الحوار لحلّ النزاعات وبناء السلام ،ننادي بثقافة الحوار الانساني ، لأن القيم الانسانية تجمع ولا تفرق ،ولأن المجتمعات البشرية لها الحق في الاختلاف في اطار التنوع ،لأن الإنسانية تدعو الشعوب الى ان تتعارف لتتقارب، لأن الأديان تدعو الى الشّركة والمحبّة نقيضا التعصّب،وهذا شعار غبطة البطريرك الراعي ، لأن اللجوء الى العنف من اجل فرض فكر او مذهب يتعارض مع الشرائع ،لأن الرسالات السماوية جاءت لتأمر بالحق وتدعو الى الحوار والسلام، لأن الأيديولوجيات التعصبية تسبّب صراعات باطلة ،لأن التعليم يرتبط ببناء الشخصية الحوارية ،لأن الاعلام يلعب دورا هاما في بناء ثقافة المواطنة والسلام ، لأن الإعلام التحريضي ينبش الموروثات الدفينة فيتحوّل الى أداة تهدم الحضارات وتستدرج إلى الإنتقام نقيض السلام ، لأن الشحن التعصّبي تحت ستار القداسة يصنع الكراهية نقيض السلام ،لأن القيم الانسانية مهددة بالزوال وثقافة العنف ستحلّ مكان ثقافة السلام ،لأن الشحن التعصّبي تحت ستار القداسة يصنع الكراهية نقيض السلام لأن القيم الانسانية مهددة بالزوال وثقافة العنف ستحلّ مكان ثقافة السلام”.
وتابع: “لأجل كل هذه المفاهيم نركّز على ثقافة الحوار الانساني لبناء الدولة ، وها هو إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الانساني 2015 نادينا به على مدى عشر سنوات وسنبقى ننادي به على أنه مساحة مشتركة بين الشعوب من أجل بقاء حضاراتها، وعلى أن ترسيخ القيم الانسانية هو واجب الدولة والمواطن ،وعلى أن المواطنة تستدرج الحوار والتطرف يستدرج الصدام ، وعلى أن الترابط بين قيم العدالة والسلام هو ترابط وجودي فعلى الحكومات أن تعمل وفق مبدأ المساواة ،وعلى أن السلام هو في تطبيق القانون الدولي الانساني وحقوق الانسان ، نظريتنا حمل بندقية الحق باليد الأولى ، وحمل كتاب القانون الدولي الانساني باليد الثانية ،فمن أجل كل هذه المفاهيم النبيلة وضعنا هذا الإعلان العلمي الدولي على أسس تنفيذية – وهي ليست تنظيرية خيالية – أسس ترتكز على ما جاءت به الأديان السماوية والاصلاحية وعلى ما وضعته نظريات العلوم البحثية التجريبية” .
وقال: “لقد كتبنا هذا الاعلان وناضلنا لأجله من أجل حماية المجتمعات البشرية ،هو إعلان حيادي موضوعي مستقل ينبغي أن تستمع اليه الشعوب والأمم من أجل تحقيق استراتيجية معرفية ترسخ ثقافة السلام ،لأن السلام يبدأ من العقول ، وفي العقول فقط يبدأ السلام. يعتبرالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 من أبرز وثائق القانون الدولي، ان بقاء مرتكبي الانتهاكات دون عقاب هو أمر سيدمر جسور العدالة والسلام،هذا ما نشهده اليوم وسيتفاقم غدا في ظل عدم تطبيق أحكام المواد الثلاثين ل”اعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الانساني 2015 ” والسببين الأساسيين لاضطراب العالم اليوم هما :بقاء هذا الاعلان حبراً على ورق وعدم تطبيقه الا باستنسابية، وتغييب نهج الحوار في مواجهة الأزمات.وبالتالي من واجب المجتمع الدولي المنكفئ للأسف أن يعالج هذه الثغرات واعتبار “حق الحوار” في صلب حقوق الانسان، وعلى السلطات الحاكمة في البلدان ذات المكونات التعددية مثل لبنان اعتماده نهجاً الزامياً في اداء مؤسساتها بحيث ينصهر في فكر الدولة انصهاراً عضويا يعمل على نشوء مساحات وطنية تلغي احتماليات الصدام ودعونا الأمم المتحدة الى “دعم برامج بناء الشخصية الانسانية في المجتمعات ذات المكوّنات التعددية، مثل لبنان وترسيخ المبادىء المشتركة للأديان بهدف وقف العصبية ومواجهة الاستغلال السياسي للدين وممارسة العنف بإسمه وتقويض السلام وتحدث عمّا يحفظ كرامة الانسان اللبناني ويحمي فكر الدولة وثبات الهوية والكيان في لبنان مشيرا إلى أن الوطن هو الأعلى والهوية هي الأسمى والكيان هو الأغلى”.
وقال: “لقد سلَّمتُ جميع رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومات المتعاقبين منذ العام 2015 – أي بعد اطلاق هذا الاعلان بمشاركة منظمة اليونسكو ودولة سويسرا ومرجعيات علمية من القارات الخمس – وحتى نهاية العام 2024 ، كما سلّمت جميع وزراء الخارجية ووزراء الثقافة ووزراء التربية الوطنية المتعاقبين وسفراء لبنان المتعاقبين لدى اليونيسكو ( كل هؤلاء الذين تعاقبوا في المسؤولية منذ 2015 وحتى 2024 بالاضافة الى مسؤولين كبار آخرين في الدولة ) ، سلَّمتهم جميعًا دون استثناء نسخة من “إعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الإنساني 2015” باللغات الثلاث ، مع نسخة من رسالة المديرة العامة لمنظمة اليونيسكو د. ايرينا بوكوفا التي أكّدت فيها أن المنظمة ستدرس موضوع الاعتراف بالإعلان كوثيقة إنسانية دولية عندما يردها الطلب المناسب من دولة عضو فيها وفق النظام الأساسي لعمل المنظمة ، ولكن لم ترفع “الدولة!” اللبنانية هذا الطلب رغم مراجعاتنا المتكررة وحرصنا على عدم تضييع هذه الفرصة الهامة النادرة التي تسمح لنا بابراز صورة ثقافية خارجية دولية مشرقة عن وطننا لبنان ، لقد بيَّنتُ في رسائلي إلى المسؤولين جميعا الأهمية الوطنية والدولية لهذا الأمر ، وطلبت إليهم رفع الطلب المنوّه عنه أعلاه، كما بيَّنتُ لهم بالوثائق اهتمام وتأييد اليونيسكو ووزارة الخارجية السويسرية بهذا الموضوع بعد اجتماعات عقدتها مع كبار المسؤؤلين في باريس وجنيف (لن أفصح عن نتائج زيارة مسؤول سويسري حكومي كبير لوزارة الخارجية اللبنانية ولقاء الوزير من أجل تنسيق هذا الموضوع الهام…كانت نتائج معيبة جدا للبنان لم أتمكّن من تبريرها أو “تبييضها!” في عيون هذا المسؤول”.
أضاف: “قابل أركان الدولة هذا الموضوع بإهمال تام : الوزير الدكتور ناصيف حتّي بادر الى الاهتمام بعد أن عقدنا معه اجتماعا مثمرا ، لكنه استقال بعد خمسة ايام من لقائنا فعاد الموضوع إلى الرفّ، كان إهمال هذا الموضوع من قبل أركان الدولة اللبنانية هو اهمال لفرصة تاريخية كانت ستؤدي بالتأكيد الى تسجيل إنجاز ثقافي دولي لصالح لبنان ، انجاز يماثل في أهميته أهمية اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، كما أدّى إلى خسارة صورة خارجية مشرِّفة هو بأمسّ الحاجة إليها في ظروف الإنهيار أحسست على مدى 9 سنوات وكأن البريد الثقافي اللبناني الدولي الهام يعالج في عاصمة أخرى غير بيروت. اليوم، وبسبب الأهمية الثقافية الدولية التي اكتسبها “الإعلان” بعد تواصلنا مع منظمة اليونسكو في باريس ومع المرجعيات العلمية الدولية ذات الصلة ، وحيث أنه يمكن رفع هذا الطلب بأي وقت ، خاطبنا السيد رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بتاريخ 24 شباط 2025 والسيد وزير الخارجية يوسف رجي بتاريخ 26 شباط 2025 خطابان خطيان معلّلان مع المستندات تجاوب الرئيس والوزير ، بعدها تواصل معنا من قبل الرئيس مستشاران السفيرة جان نهرا والأستاذ ميشال دوشادرفيان اللذان أعلمانا بأن الرئيس أعطى تعليماته الى سفيرة لبنان الجديدة لدى اليونسكو السيدة هند درويش بالمعالجة مع تزويدها بمسار بياني تنفيذي رسمي حول آلية عمل ستؤدي الى نجاح لبنان في ابراز صورة ثقافية مشرقة”.
وتابع: “نستخلص التوصية الوحيدة التالية من ندوتنا ونطلب الى وسائل الاعلام التركيز عليها وهي :
حيث ان “اعلان جنيف الدولي لثقافة الحوار الانساني 2015 ” هو أول نداء علمي عالمي يدعو الى اعتماد ثقافة الحوار لحل النزاعات وبناء السلام، ويؤكد على دعوة المجتمعات البشرية الى “فعل الحوار” لمنع انهيار دُولها،
وحيث أنه أول وثيقة دولية ناجزة تعمل على حفظ الهوية وحماية الكيان في ضوء استراتجية معرفية ترسّخ ثقافة السلام ،
نطالب الدولة اللبنانية بمتابعة جهودها لدى منظمة اليونيسكو من أجل اعتماد هذا”الاعلان” وثيقة علمية ثقافية انسانية دولية
وطني يستحق صورة خارجية ناصعة هو بأمسّ الحاجة اليها بعد أن شوّهتها الأغلبية الساحقة من حكامه. لا بد لنا من تناول الأنموذج اللبناني في فعل الحوار وبناء الدولة لنقول: “ان الدولة هي فعل انصهار بين إرادة المجتمع والمؤسسات الدستورية” ، والدولة الفاشلة هي التي تفشل في تشكيل هذه الارادة مما يؤدي إلى انهيارها وخسارة سيادتها. “هناك علاقة شرطية بين بناء الدولة وقدرتها على فرض السلام” : الأمر الذي يفرض وجود مساحة وطنية مشتركة دائمة بين مكونات المجتمع في ثلاث ركائز: الدستور، ثقافة الحوار، والسلوك وفق نظام القيم الأخلاقية . وبالتالي : ان لبنان يحتاج الى تنفيذ خطة عمل علمية تراكمية استراتيجية عشرية 10 سنوات تتمحور حول ترسيخ “فكر الدولة” في الرأي العام الوطني الضامن لجسور العدالة وحقوق الانسان . كيف يكون ذلك ؟ يكون عبر تنفيذ برنامج ثقافي علمي استراتيجي على مساحة كل الوطن ، برنامج أعمدته عشرة محاور المواطنة وفكر الاعتدال ، ثقافة الحوار ، نبذ خطاب الكراهية والعنف ، الوحدة الوطنية ، حقوق الإنسان، الدستور ، الهوية الوطنية ، سيادة الدولة ، الديمقراطية ، ثقافة السلام”.
وتابع: “لا يمكن تنفيذ هذه الخطة الاستراتيجية دون حوارات تجري حصرا داخل المؤسسات الدستورية على قاعدة “ميثاق الاعتدال لبناء الدولة” الذي عقدنا حوله “مؤتمر جنيف الدولي نوفمبر 2021 “، لقد تبنّى هذا المؤتمر الرؤية العلمية لاستراتيجية الأمن القومي اللبناني 2020 من اجل بناء الدولة ، تم تسليم هذه الاستراتيجية الى الرؤساء وكبار المسؤولين المعنيين خلال العام 2020 ومنهم قائد الجيش رئيس الجمهورية الحالي ، ان عدم البدء بتطبيقها في حينه سبب انهيارا متدحرجا متفاقما للدولة . فلو تمّ تطبيقها في حوارات داخل المؤسسات الدستورية لكنّا اليوم في وضع مختلف تماما عما نحن عليه اليوم : لما حدث انهيار للدولة وربما لما وقعت حرب!!! ان “حوارات الظلام والكواليس” سبّبت وستبقى تسبّب انهيارا متدحرجا للدولة ونشوء “فديراليات الأمر الواقع” التي نراها للأسف تتوالد يوما” بعد يوم، والبعض يحذّر من أن تلتحق بعضُها يوماّ بكيانات أخرى اذا بقيت “حوارات الظلام والكواليس” على حالها .. علينا فورا بحوارات “النور والشمس” داخل المؤسسات الدستورية حصراّ ووفق صلاحياتها حصراّ من أجل بناء دولة حديثة يستحقّها شعبها”.
وختم: “هنري دونان ، هو واضع المداميك الأولى لاتفاقيات جنيف 1949 لحماية ضحايا النزاعات المسلحة، وهو أب القانون الدولي الانساني، توفّي دونان مكتئباً حزيناً بعد أن عزل نفسه عن المجتمع وعاش نهاية حياته وحيداً،لماذا؟ لأن هذا القانون لم يطبّق وبقيت اتفاقيات جنيف حبراً على ورق رغم المصادقة عليها من قبل دول العالم ، اذا كان دونان يرى “الأيدي والأقدام والرؤوس والجثث تعوم فوق برك الدماء” – حسب تعبيره – بدل أن يرى حماية المدنيين والأبرياء والنساء والأطفال والأعيان في الحروب ، أليس هذا مانراه اليوم أيضا بعد 76عاما ، أرجو أن لا تكون نهايتي مثل نهاية هنري دونان لأن ثقافة الحوار الانساني مغيّبةٌ، والعنف المفرط ممجّدٌ ، والقوة المتوحشة طاغية ، وثقافة السلام حبرٌ على ورق ، ونتساءل جميعاً: هل سيدوم هذا الواقع اللانساني المأساوي التدميري المرعب جوابي هو : اذا لم يدم هذا الواقع وحلّ السلام فأكون قد قمت بواجبي الديني والدنيوي تجاه الله والانسان ولبنان والمجتمعات البشرية من أجل السلام ،ولكن اذا دام هذا الواقع وبقي “العنف المتوحش” سائداً فستكون نهايتي بالتأكيد مثل نهاية دونان، عندها : أرجو منذ الآن أن تطلبوا لي وله الرحمة والغفران”.
دكاش
وقال البروفسور دكاش في كلمته: “اليوم نلتقي في مدينة جبيل ، هذه المدينة التي اعطت البشرية الحرف الاول ، مدينة التاريخ الذي يتكلم لغات الحضارة والانفتاح ، لكي نتأمل معا في موضوع عميق وملح : بناء السلام عبر الحوار . لقد جاء الاعلان الدولي لجنيف حول ثقافة الحوار الانساني عام 2005 ، ليضع امامنا وثيقة تاريخية ترسم طريقا نحو مستقبل اكثر انسانية وعدلا . هذا الاعلان لم يكن مجرد بيان دبلوماسي ، بل هو صرخة ضمير عالمي في وجه النزاعات والحروب والانقسامات ، وهو دعوة عقلانية الى جعل الحوار قاعدة للعيش المشترك وركيزة للسلام العالمي . ان الحوار ، كما شدد اعلان جنيف ، ليس ترفا فكريا او خيارا جزئيا ، بل هو حاجة انسانية وجودية ، تقوم على الاعتراف المتبادل ، والاحترام المتبادل ، والسعي المشترك الى الحقيقية .
أضاف: “هناك اجماع عالمي وسياسي وديني على مثال وثيقة الاخوة الانسانية من اجل السلام العالمي والتعايش المشترك التي وقعها قداسة البابا الراحل فرانسيس وشيخ الازهر احمد ابو الطيب يقول ان السلام لا يبنى بالقوة ولا بالهيمنة ، بل بالعدالة والاعتراف المتبادل بالكرامة الانسانية لكل فرد . وهنا يضع اعلان جنيف اسسا واضحة :اولا، ان الكرامة الانسانية هي مرجع الحوار ، فلا قيمة لاي نقاش ان لم ينطلق من احترام قدسية الانسان. ثانيا ، ان التنوع الثقافي والديني ليس تهديدا بل غنى ، فالتعدد هو مجال لقاء ، لا ساحة صراع . ثالثا ، ان الحوار هو التزام ومسؤولية ، وليس مجرد وسيلة ظرفية ، بل خيار اخلاقي يقتضي شجاعة الاصغاء قبل الكلام ، والانفتاح قبل الحكم ، والبحث عن نقاط الالتقاء قبل التركيز على الخلاف”.
وقال: “ان لبنان ، بتجربته الطويلة في العيش المشترك ، وبتركيبته المتنوعة ، مدعو اكثر من غيره ليكون شاهدا عالميا للحوار . واذا كانت جبيل قد اعطت للعالم ابجديته الاولى ، فان عليها اليوم ان تقدم ” ابجدية سلام جديدة” قوامها الاعتراف المتبادل والاحترام والتعاون . ان بناء السلام عبر الحوار لا يقتصر على القادة السياسيين والدبلوماسيين ، بل يبدأ من التربية والثقافة والاعلام . فالجامعة، والمدرسة ، والمنبر الاعلامي ، والعائلة، كلها اماكن لصناعة ثقافة الحوار . فاذا علمنا ابناءنا كيف يختلفون دون ان يتخاصموا ، وكيف يتنوعون دون ان يتناحروا ، نكون قد وضعنا الاساس المتين لمجتمع سليم وامة موحدة ، من هنا ، تأتي دعوتنا اليوم ، انطلاقا من اعلان جنيف، الى: اولا ادماج ثقافة الحوار في المناهج التربوية: ان التربية هي البذرة الاولى التي تنمو لتشكل شخصية الانسان. فاذا لم نرب الاجيال على ثقافة الحوار منذ طفولتهم ، سنسلم المجتمع الى دوامة نزاعات لا تنتهي . ادماج ثقافة الحوار في المناهج يعني ان نعلم التلاميذ الاصغاء قبل الكلام، احترام الرأي الآخر حتى لو كان مخالفا ، البحث عن حلول وسطية بدل التصلب في المواقف ، والتفكير النقدي بدل التقليد الاعمى ، كما يعني ان تتحول المدرسة والجامعة الى فضاء لممارسة الحوار الحقيقي : عبر المناظرات ، والانشطة المشتركة ، والتربية على المواطنة ، لكي يصبح الحوار سلوكا يوميا لا مجرد درس نظري . فالطالب الذي يتعلم ان يختلف مع زميله باحترام ، سيكون مواطنا قادرا على بناء وطن متماسك وسالم”.
أضاف: “ثانيا، اطلاق مبادرات محلية واقليمية للحوار بين الاديان والثقافات: ان اعلان جنيف يؤكد على ان التنوع الثقافي والديني هو غنى للانسانية لا تهديد لها . من هنا ، فان الحاجة ملحة لاطلاق مبادرات محلية في القرى والمدن ، حيث يلتقي الشباب من خلفيات مختلفة في ورش عمل ومخيمات حوارية ، يتعلمون خلالها القيم المشتركة التي توحدهم . وعلى المستوى الاقليمي، يجب ان تعقد منتديات تجمع مفكرين وقادة دينيين وسياسيين من مختلف البلدان ليتبادلوا الخبرات ويبنوا جسورا بين مجتمعاتهم ، والحوار بين الاديان ، على وجه الخصوص ، يسهم في تفكيك الصور النمطية المسبقة ، ويظهر ان القيم الكبرى كالعدالة والرحمة والاخاء هي مشتركة بين الجميع . وبهذا ننتقل من حالة التنافس والتصادم الى حالة التكامل والتعاون . وهل لدى احد في هذا العالم اداة اخرى غير الحوار ، وهو جزء من الطبيعة الانسانية ، ولد مع الكلمة ( اللوغوس ) ويحمل في اعماقه هذا اللوغوس الذي يرافق الانسان منذ نشأته ، حاملا معه قيم المحبة ، والاعتراف بالآخر ، والثقة المتبادلة ، فليتفضل اذا من يجد بديلا عن الحوار ان يقول لنا : ما هو البديل سوى العنف؟”
وتابع: “ثالثا، جعل العدالة الاجتماعية اساسا للسلام: لا يمكن لاي حوار ان يكون حقيقيا اذا كان طرف من الاطراف يشعر بالظلم او الحرمان . فالمحروم لا يسمع الا صوته الداخلي الصارخ بالوجع . لذلك ، يؤكد اعلان جنيف ان العدالة الاجتماعية شرط لا غنى عنه لتحقيق سلام دائم والعدالة تعني توزيعا عادلا للموارد ، فرصا متكافئة في التعليم والعمل ، حماية حقوق الفئات الضعيفة والمهمشة ، وضمان المساواة امام القانون . اذا شعر كل مواطن ان كرامته محفوظة وان حقوقه محترمة ، يصبح الحوار وسيلة طبيعية لحل الخلافات بدل اللجوء الى العنف او العداوة . فالسلام الذي يقوم على غياب الحرب فقط سلام هش ، اما السلام القائم على العدالة فهو سسلام راسخ . والحوار يكون تأكيدا للتعددية ، والمساواة في التعددية ، والتعددية باحترامها العملي هي المدخل للديمقراطية توجيها وممارسة الانتخابات يجب ان تجري في مواعيدها”.
وقال: “رابعا، تعزيز الاعلام المسؤول: الاعلام اليوم هو صانع الرأي العام ، وصوته اقوى من اي منبر آخر . فاذا كان الاعلام غير مسؤول ، يمكن ان يتحول الى اداة للتفرقة والتحريض ونشر الكراهية . لذلك فان دور الاعلام في بناء ثقافة الحوار محوري ، اعلام مسؤول يعني اعلاما يفتح منابره لكل الاصوات ، يشجع النقاش الهادئ بدل الصراخ ، يبحث عن الحقيقية بدل الاثارة ، ويركز على ما يجمع بدل ما يفرق . الاعلام يجب ان يكون مساحة لتظهير القيم الانسانية المشتركة ، منصة لنشر مبادرات الحوار الناجحة ، واداة لتثقيف الشعوب حول اهمية قبول الآخر. ورأى اننا بحاجة الى ميثاق شرف اعلامي يلتزم بع الاعلاميون والوسائل الاعلامية ، بحيث يكونوا شركاء حقيقيين في مسيرة بناء السلام عبر نشر ثقافة الاحترام والتسامح “.
وتابع: “من جبيل التي علمت العالم كيف يكتب الحرف ، نرفع اليوم نداءنا الانساني الى كل ضمير حي : فلنجعل من الحوار لغة حياتنا اليومية ، ومن السلام مشروعا دائما لا شعارا عابرا . ان الاوطان لا تبنى بالصمت ولا بالانقسام ، بل بالتلاقي على كلمة سواء ، وبالايمان بان اختلافنا لا يلغي وحدتنا ، بل يغنيها ،فلنحمل من هذه المدينة ، مهد الابجدية ، رسالة جديدة الى العالم: ان نكتب معا ابجدية سلام تبنى على الكرامة والعدالة ، وتزهر بالمحبة والرحمة ، وتثمر عيشا مشتركا يليق بالانسان .ان الحوار ليس غاية بحد ذاته ، بل هو طريق الى الحقيقية ، وجسر الى الاخر ، ونافذة تطل منها الانسانية على افق من نور وسلام ،فلتكن جبيل اليوم ، كما كانت بالامس ، منارة الحرف والعقل ، ومنطلق فكر جديد يعيد للبشرية معنى اللقاء ومعنى الانسان”.
وختم: “من هذه المدينة العريقة التي حملت الابجدية الى العالم ، نطلق اليوم نداء جديدا : فلنكتب معا ابجدية سلام جديد ، اساسها الحوار ، ولغتها الاحترام ، ورسالتها الاخوة الانسانية. اننا مدعوون جميعا قادة ومثقفين ومؤمنين لنضع الحوار في قلب مشروعنا الوطني والانساني ، لان بدونه لن يكون سلام ، ومعه فقط يبنى مستقبل الاجيال القادمة” .
عون
ونقل المطران عون في مستهل كلمته تحيات البطريرك الراعي وقال: “لقد شرّفني صاحبُ الغبطة والنيافة الكردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكلي الطوبى فكلّفني تمثيلَه في هذه الندوة التي دعا إليها العميد الدكتور علي عواد احتفاءً بمرور عشر سنوات على إعلان جنيف الدوليّ لثقافة الحوار الإنسانيّ، وإنني باسمه ألقي عليكم هذه الكلمة”.
أضاف: “سأل صحافيٌ القديسَ أوسكار روميرو في خِضمّ الحرب الأهلية التي كانت تدور رَحاها في السلفادور: “أنت الذي ينادي بالمحبة، ماذا فعلتْ المحبة لوقف الحرب؟” أجاب: “إذا كان الإنسانُ لم يهتدِ بعدُ إلى المحبة ليصنع السلام، فهو لم يرتَقِ بعد عن مُستوى البهيمة!” يُلقي جوابُ القديس روميرو الضوءَ على العلاقة الوطيدة بين السلام وضرورةِ أن تكونَ في الإنسان رغبةٌ لأن يرى العالم بصورةِ خيرٍ أسمى يعملُ من أجله. هذا هو التوقُ إلى السلام الذي يُعبَّر عنه بالمحبة. فالبابا لاون الرابع عشر، في إرشاده الرسوليّ عن المحبة، يقول إن المحبةَ ليست مجردَ شعورٍ نبيل، بل هي “قبلَ كل شيء طريقةٌ في النظر إلى الحياة، وعيشُ هذه النظرة” (ف. 118)”.
وتابع: “لا سلام حقيقيا من دون التمسك بعقيدةٍ سليمة تقومُ على نظرةٍ سلاميةٍ للعالم ، كانت الكنيسةُ الكاثوليكية قد شّددت على هذا الأمر حين قال المجمعُ الفاتيكاني الثاني: “ليس السلامُ مجردَ انعدامِ الحرب، كما أنه لا يقتصرُ فقط على تأمين التوازن بين القوى المتخاصمة؛ ولا يتأتى أيضًا عن سيطرةٍ استبدادية. فبكل حقّ نحددُه: “بعملِ العدل” (أشعيا 32، 17). إنه ثمرةُ نظامٍ رَسَمَه المؤسسُ الإلهي في المجتمع الإنساني، ويجبُ أن يتحققَ بواسطةِ اناسٍ، لا ينفكون يتوقون الى عدلٍ أكمل […] فالسلام الذي نتحدث عنه لا يستتب من دون الحفاظ على خير الأشخاص ومن دون أن يتبادلَ الناسُ، بثقةٍ وحرية، كنوزَهم الفكرية وكنوزَ قواهم الخلاقة. وإنه لمن العبث أن يُبنى سلامٌ إن لم يكن على احترام سائر الناس والشعوب وكرامتِهم وممارسة الإخوة بدون انقطاع. فالسلام أيضًا هو ثمرة الحب الذي يقود الى أبعد بكثير مما يستطيع العدل أن يحمله.” (ك. ع. 78) ​السلام فعلٌ؛ إنه يدٌ تمتدُّ باسم الخالق للحفاظ على النظام الذي وضعه للعالم فالله بالأصل أراد الإنسانَ “شريكًا”، “خليفةً”، يسهر على إرادته التي وضعها في خلقه ويعمل من أجلها مع أقرانه. السلام هو إذن أنبل عمل إنسانيّ وحضاريّ تجعلنا هذه الحقيقة ننظر بعين المسؤولية كمؤمنين بإرادة الله هذه، كيف نكون هذه الأداة الفاعلة في العمل من أجل السلام، وسط عالم يتخبط بحروب ونزاعات لا تعرف نهاية، كلها موسومة بنزعة السيطرة والإلغاء، كما لو أن الإنسان يتنكر لإنسانيته”.
وقال: “لكن في الوقت عينه لا يمكننا أن نستسلم لهذه الصورة السوداوية، فهناك الكثير من محبي السلام، يقدّمون ذواتهم ويفنون حياتهم من أجل إسعاد البشرية حتى تتذوق طعم السلام. علينا أن نفكر بهؤلاء أنهم يدُ الله الممدودة في العالم. كما لا يسعنا أن ننسى أن هناك دُولًا تفرح بأنها تعيش منذ عقود من دون حروب. وإذا سألنا: كيف بلغت إلى هذا الاستقرار؟ نجد أنها وعت حقيقة كان قد عبّر عنها البابا القديس بولس السادس عندما أطلق صرخته الشهيرة في خطابٍ ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1965: “لا للحرب بعد اليوم!”، حين قال: “يكفي أن نتذكر أن دماء ملايين الرجال، والمعاناة التي لا توصف ولا تُحصى، والمجازر العبثية والخراب المروّع، تدمغ الميثاقَ الذي يجمعكم، الذي هو قَسَمٌ يجب أن يغيّر تاريخ العالم في المستقبل: لا للحرب بعد الآن، لا للحرب بعد الآن! إن السلامَ، وحدَه السلام، هو الذي يجب أن يوجّه مصير الشعوب وكل البشرية!””
وتابع: “​كم هو كبير دورُنا نحن المؤمنين بمخطط الله للبشرية. هل هي صدفة أم إرادة إلهية أن يكونَ الكلامُ الذي علّم الله البشر أن يتبادلوه فيما بينهم هو السلام. في المسيحية خاطب يسوع تلاميذَه عندما دخل عليهم بعد قيامته من بين الأموات قائلاً: “السلام لكم!”. وفي الإسلام تُلقى التحية بقول: “السلام عليكم”. السلام وسيط التواصل بين البشر، إنه سرُ الحوار الحقيقيّ بين البشر. ذلك أن من يتخلّق بهذه الصورة الأصيلة للحوار، لا بد هو صانع سلام. وفي كلّ الأحوال نجد هذا الرابط واضحًا بين قول السلام وعيش السلام في الكتب المقدّسة، باعتباره رسالة المؤمنين الأساسية. ففي التطويبات على الجبل، وهي أهم شريعة للفعل المسيحي، قال يسوع: “طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ.” (متى 5: 9)، وكذا في القرآن الكريم قوله: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ } (الأنعام:54) ،​هذه المسؤولية بليغة المعاني، وعلى المؤمنين الاضطلاع بها: قولُ السلام وصناعةُ السلام”.
وأردف: “يلاقي ما نقولُه ما ورد في إعلان جنيف الدوليّ الذي تحتفلون بعشر سنوات على إطلاقه قولَه: “إن السلام في العالم لن يكون إلا بالسلام بين الأديان، والسلامُ بين الاديان لا يكون الا بالحوار الانساني والقيم الانسانية المشتركة” ، ​من هنا أهمية الحوار في صناعة السلام. فلا سلام حقيقيّ من دون حوار حقيقيّ. لكن الحوار بوحي ما قلناه سابقًا يحمل مضمونًا واضحًا وهو أنه ليس مجرد تفاوض أو وسيلة لتحقيق مصالح أو هدنة مؤقتة بين حربين. فالحوارُ، “لبلوغِ سلامٍ حقيقي، كما يقول البابا فرنسيس، يتطلّبُ البحثَ عن الحقيقة بعيدًا عن الأيديولوجيات أو الآراء المختلفة، لأن السلامَ بِناءٌ يُشاد باستمرار، وهو طريقٌ نسيرُها معًا، ونحن نبحث دائمًا عن الخير العام، ونلتزم بالتمسك بالوعد المقطوع واحترام الحق.” (رسالة يوم السلام العالمي 2020)”.
وقال: “إن الحوارَ، بهذا المعنى، هو فعلُ التزامٍ لا مجرد كلام أو تفاوض؛ إنه إرادةٌ واضحة لفعل الخير. ولهذا الفعل طبيعة محدّدة قال فيها المفكّر مارتن بوبر (Martin Buber): “إن الحوار الحقيقي يقوم على تحقيق المعية الأسمى بين البشر.” هذا ما نعتقد به من وحي إيماننا، أن من يلتزمُ الحوارَ يعملُ للسلام، فيكون بذلك على تناغمٍ مع إرادةِ الله الذي يريد أن يعيشَ البشرُ أخوةً، ويعملوا من أجل هذه الأخوّة بكل تفانٍ حتى يُرضوا إرادتَه بما يحق ويليق. هذا التوجه صريح في الكتب المقدّسة. ورد في القرآن الكريم: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ٱدْخُلُوا۟ فِى ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ إِنَّهُۥ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة، 208). وأتى في الإنجيل المقدّس: “اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً.” (مَرْقُسَ50:9)”.
وختم: “​كم نحن بحاجة كمسلمين ومسيحيين إلى أن نتمسك بهذه الحضارة ونؤدي شهادة حقّة للسلام. ونعيش هذا المعنى العميق للحوار الذي يقودنا إلى التزام راسخ من أجل أن نكون من صانعي السلام. ولعل هذه المسؤولية مضاعفة عندنا نحن اللبنانيين، في بلد يُنظر إليه على أنه نموذج حضاري: “رسالة للشرق والغرب”. وهذا المطلب أكثر إلحاحًا اليوم ونحن نعبر في هذه التحولات الكبرى في شرقنا أن نبادر حقًا لنكون ممن يساهمون في صناعة سلام حقيقي مبني على الحقيقة وحق الشعوب، وعلى بناء مجتمع إنساني يليق حقًا بكرامة الإنسان”.