الرّاعي: عيد التّجلّي يدعونا أن ننظر إلى لبنان كما يراه الله: وطنًا ذا دعوة وحضور ورسالة

عظة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي
الأرز – الثلاثاء 5 آب 2025
عيد الربّ
“تجلّى أمامهم، وصارت ثيابه بيضاء كالثلج” (مر 9: 3).
1. نحتفل الليلة بعشيّة عيد تجلّي الربّ على جبل طابور. إنّه موعد سنويّ مبارك درج على إحيائه بطاركتنا. فيسعدني إكمال هذه المسيرة، في هذه الطبيعة الشاهدة على قدسيّة هذه الأرض المعبّرة عن رفعة السماوات. وإنّنا في الذكرى السبعين لوفاة المثلّث الرحمة البطريرك أنطون بطرس عريضة نقدّم لراحة نفسه هذه الذبيحة المقدّسة. في هذه البقعة الإلهيّ يلامس البشريّ. فطبيعة المسيح الإلهيّة تتجلّى بملء مجدها أمام ثلاثة من تلاميذه: بطرس ويعقوب ويوحنّا. وظهر معه موسى وإيليّا، للدلالة على أنّ العهد القديم بكامله يشهد له، وهو الذي أتى ليتمّ الشريعة والأنبياء. فموسى رمز الشريعة، وإيليّا رمز الأنبياء.
2. يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، أنتم الآتون من مدينة بشرّي وسواها من البلدات والأماكن والمناطق، لإحياء عيد الربّ في أرزه الدهريّ في هذه الليتورجيا الإلهيّة. فليس التجلّي حدثًا عابرًا من الماضي، بل هو إعلان يوميّ لمجد ألوهيّة المسيح، ولوجهه الإلهيّ المخفيّ في جسده البشريّ. لقد تجلّى في مجده، كما سيتجلّى في مجده الأبديّ. يعلّمنا عيد التجلّي أنّ الألم يقود إلى المجد، وأنّ من يسير مع الربّ يسير في نور لا يغيب. وقد أظهر الربّ لتلاميذه المجد الذي ينتظرهم بعد الألم، لكي لا يفقدوا الرجاء.
3. أمّا عن صوت الآب من الغمام: “هذا هو ابني الحبيب فله اسمعوا”، فيكشف لنا أنّ الربّ يسوع ليس مجرّد معلّم أو نبيّ، بل هو إبن الله الأزليّ، وكلمته الأبديّة المتجليّة في التاريخ، وقد صار فادي الإنسان ومخلّص العالم، متمًّما هكذا رسالته الإلهيّة.
في هذا المكان المقدّس، تحت ظلال أرز الربّ، رمز المجد والخلود، ورائحة الطيب والبخور، نشعر برهبة التاريخ، وعظمة الإيمان، وعبير لبنان الرسالة. لقد اجتمعنا لنرفع صلاتنا معًا من أجل وطننا وشعبنا وكنيستنا.
4. في تقليد الكنيسة، عيد التجلّي هو عيد النور، عيد المجد الإلهيّ الذي سطع في جسد المسيح. في الليتورجيا نعيّد ونعيش سرّ الخلاص، والتجلّي هو من صميم هذا السرّ. ففي كلّ قدّاس نتسلّق الجبل مع المسيح، ونتأمّل مجده في وجه القربان، ونتذوّق لمحة من النور الآتي. ليست الليتورجيا مجرّد ذكرى، بل هي لقاء حيّ مع الربّ الممجّد. سرّها أقوى من أيّ نور. وكلّ من يتناول القربان، إنّما يدخل في شعاع التجلّي الإلهيّ، ويتحوّل تدريجيًّا إلى إنسان جديد، ممتلئ من نعمة الربّ.
5. من على جبل الأرز، نرفع النظر إلى وجه لبنان الحقيقي، وجه الرسالة، وجه النور الذي يضيء للعالم من الشرق. نعم، نحن شعب رأى مجد الربّ عبر التاريخ، في قدّيسيه، في شهدائه، في صلابته، وفي إيمانه الذي لا ولن يموت. لبنان هذا الوطن المبارك، لا يحتاج إلى إصلاح إداريّ فقط، بل إلى تجلٍّ روحيّ-وطنيّ، إلى صعود إلى الجبل، إلى لحظة صدق ومواجهة مع الذات.
من هذا الجبل نرفع أنظارنا إلى الله، وقلوبنا إلى الوطن. فإنّ عيد التجلّي يدعونا أن ننظر إلى لبنان، كما يراه الله: وطنًا ذا دعوة وحضور ورسالة.
6. نحن نؤمن أنّ الوطن ليس ترابًا فقط، بل هو كيان ورسالة. وهذا ما يحمّل المسؤولين في الدولة جميعًا، مسؤوليّة مقدّسة في أن يجعلوا من خدمتهم تكريسًا لخير الشعب، وسبيلًا لتجلّي الحقيقة والعدالة والشفافيّة. وأن يكونوا خدّامًا للصالح العام، وبناةً لوطن يرجع إليه بهاؤه ومجده.
7. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، ضارعين إلى الربّ يسوع، الممجّد على جبل طابور، أن يجعل من حياتنا إشعاعًا دائمًا لنوره، ومن وطننا أرضًا تتجلّى فيها كرامة الإنسان وقدسية الحياة. نصلّي من أجل عائلاتنا لتبقى مراكز للنور والإيمان والرجاء. نصلّي من أجل شبابنا كي وسط الظلمة لا يضيّعوا البوصلة، بل يتبعوا وجه المسيح. نصلّي من أجل إحلال السلام في غزّة، ووضع حدّ لتجويع المدنيّين أطفالًا وكبارًا. فالموت جوعًا وصمة عار في جبين هذا العصر. فللمسيح الإله ولأبيه وروحه القدس كلّ مجد وشكر الآن وإلى الأبد، آمين.