كلمة رئيس اللجنة الاسقفيّة للحوار المسيحي الاسلامي سيادة المطران شارل مراد في ندوة بعنوان * وجه مريم* لمناسبة عيد بشارة العذراء مريم في كاتدرائية سيدة البشارة للسريان الكاثوليك – بيروت

صاحب الغبطة مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان الكلي الطوبى
أصحاب السماحة والسيادة
الفعاليّات السياسيّة والإجتماعيّة والعسكريّة
أيّها الكهنة والراهبات
أيُّها الكرامُ،
يتمحور لقاؤنا السنويُّ هذا العام، بمناسبة عيد بشارة العذراء مريم، الّذي أمسى يومًا وطنيًّا إسلاميًّا – مسيحيًّا؛ حول “وجه مريم”.
ولا يَسَعُنا أن نتناول موضوع “الوجه” دون أن نجد فيه امتدادًا نحو الآخر، في علاقةٍ قوامُها الغيريّة والتواصلُ.
الوجهُ مدخلٌ إلى الآخر وتجلٍّ مباشرٌ له، على ما يرى الفيلسوف الليتوانيُّ – الفرنسيُّ إيمانوئيل ليفيناس (1906 – 1995)، الّذي وجد في الوجه فلسفةً عميقةً قوامها العلاقة الأخلاقيّة الّتي تسبق كلُّ بنيةٍ ميتافيزيقيّةٍ وتتجاوز الحساب العقلاني… وتواجه الفلسفات الشموليّة الّتي تسجن الآخر في أنطمة فكريّة مغلقةٍ… الوجه نافذةٌ تخرجُ من دائرة الكينونة وتتخطّى الماهيّة في نطاقها الصغير المحدود، لتكشف النقاب عن بُعدٍ جديدٍ للمعرفة والتواصل، إنّما هو سرٌّ لا يفقههُ سوى مَن أدرَكَ فنَّ قراءةِ الملامح وسبر غور النظرات والغوصِ في بحار العيون والحدقات.
كيف لا والوجهُ هو أوّلُ وسيلةٍ للتواصل قبل أن ينطق المرءُ بكلماتٍ فيه، فهو ينقل المشاعر والنوايا والموقف… ويعبّر عنها بأسلوبٍ يفوق الكلام قدرةً على إيصال المعاني. الوجه يخلق علاقةً قوامها الحضور المتبادلُ، حيث يصبح الحوارممكنًا، لا كمجرّد تبادلٍ للمعلومات، بل كلقاءٍ حقيقيٍّ.
في الفكر المسيحيّ، يُنظَرُ إلى الوجه على أنّه كاشفُ للسرّ الإلهيّ. لذا، فالتجسّد الإلهي يمنح وجه المسيح بُعدًا لاهوتيًّا، حيث يصبح التأمّل فيه مسارًا للوصول إلى الله الآب: “أرِنا يا ربُّ وجهك” (المزمور 8: 26) وأيضًا: “مَن رآني فقد رأى الآب” (يوحنّا 14: 9).
لهذا السبب، فإنّ الأيقونة في المسيحيّة ليست مجرَّد صورة، بل هي نافذة إلى العالم الإلهي.
وهكذا، فالوجهُ ليس مجرّد سطحٍ يُعَبَّر من خلاله، بل هو موضوع العلاقة والغيريّة والتحلّي. اختفاء الوجه أو تشويههُ، كما يحدث اليوم في المجتمعات التكنولوجيّة الحديثة أو المجهولة الهويّة، يطرحُ تساؤلاتٍ جوهريّة حول طبيعة العلاقات الإنسانيّة ووجودنا في العالم.
أيُّها الأحبّاء،
لمّا كان الوجهُ المكان الأوّل للّقاء والتعرّف إلى الآخر، فهو حقيقةٌ كونيّةٌ تتجاوز الثقافات والتقاليد. في إطار الحوار الإسلامي – المسيحي نستطيع أن نرى في الوجه، ولا سيّما في وجه مريم، حضورًا يدعو إلى اللقاء والإحترام ويُشعِرُ بالدفء والحنان والمحبّة.
في الّلاهوت المسيحي، يُعتبَرُ الوجهُ مكانًا للتجلّي الإلهي ابتدأ في سفر التكوين وعَبَرَ العهد القديم، ليتألّق بأجلى بيانٍ ووضوحٍ في وجه السيّد المسيح الّذي فيه أصبح الله مرئيًّا وهو الّذي قال بشأنه القدّيس بولس الرسول: “إنّه ضياءُ مجده وصورة جوهره ويضبط كلُّ شيءٍ بكلمة قدرته” (عبرانيّين 1 ، 3)
أمّا في الإسلام، وعلى الرغم من أنّ تصوير الله ممنوعٌ، إلّا أنّ للوجه دورًا روحيًّا واضحًا: فالمسلم يتوجّه إلى الله بصلاته، ويضع وجهه على الأرض في أثناء السجود كعلامةٍ للخضوع والعبادة، والوجه نفسه يُصبح مضيئًا بنور الحق لمَن يطلب القرب من الله: “(وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظرةٌ! – القيامة 22 – 23).”
إنطلاقًا من هذا المفهوم، نستطيع القول إنّ الوجهه هو عنصرٌ جوهريٌّ في التلاقي الإسلامي-المسيحي، إذ إنّ النظر إلى الآخر المختلف هو اعترافٌ بكرامته الإنسانيّة: “لأنّك كريمٌ في عينيَّ وأنا قد أحببتك (أشعيا 43 / 4)؛ وذلك بغض النظر عن الإختلافات الدينيّة والثقافيّة. النظرُ في وجه الآخر هو رفضٌ لحصره في هويّة جامدةٍ ورؤيته كإنسانٍ فريدٍ محبوبٍ من الله، بهدف فتح مجالٍ للتواصل الحقيقي معه، حيث يلتقي الكلامُ بالنظر وتُبنى جسورُ الفهم المتبادل.
في عالم اليوم، حيث تنتشر الشكوك والصراعات الطائفيّة، قد تكون استعادةُ معنى “الوجه” وسيلةً للخروج من منطق الصراع والدخول في ديناميكيّة اللقاء والمصالحة؛ ولا سيّما في منطقتنا العربيّة المتألّمة وفي وطننا لبنان على وجه الخصوص!
أيّها الكرام،
يحتلُّ وجه مريم العذراءِ سيّدة نساء العالمين، مكانةً فريدةً في الحوار الإسلامي – المسيحي، ليس فقط كرمزٍ دينيٍّ مشتركٍ، بل أيضًا كصورةٍ للرحمة والطهارة والتعبُّد النقيّ لله. مريمُ مقدّسةٌ في المسيحيّة والإسلام، ووجهها يُصبحُ جسرًا حقيقيًّا روحيًّا ولاهوتيًّا بين الدينين الكريميْن.
إنّ النظر إلى وجه مريم، الّذي عليه أشرقت أنوار السّماء، له في المسيحيّة خاصّةً، بحثٌ مضمرٌ عن وجه الله. وفي الإسلام، توجيه الوجه نحو الله على غرار مريم، إنّما هو علامةٌ على إخلاص القلب وخلوص النيّة. وهكذا، فإنّ موضوع الوجه في الحوار الإسلامي – المسيحي ليس مجرّد قضيّة أنتروبولوجيّة، بل هو تأمّل في حضور الله وفي دعوته إلى الأخوّة الإنسانيّة.
أن ننظر إلى الآخر بعينيّ مريم، وأن نعترف به أخًا في الإنسانيّة، هو خطوةٌ أولى نحو المصالحة والسلام. فالله خلق الإنسان على صورته (تكوين 27: 1) وقال القرآنُ: {وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا}” (الحجرات 13). ربّما يكونُ الحوار الحقيقي بين الإسلام والمسيحيّة مجرّد نظرةٍ صادقةٍ إلى وجه مريم، ومن خلاله إلى وجه كلّ إنسانٍ، بحثًا عن أنوار الله في خليقته وبراياه.
تصوّر الإيقونوغرافيا المسيحيّة وجه مريم، لا سيّما في أيقونات العذراء والطفل، مثالًا للرّقّة السماويّة وانعكاسًا للرحمة الربّانيّة وحضورًا أموميًّا يرافق المؤمنين في مسيرتهم نحو الله. إنّ نظرتها الهادئة تدعو إلى الصلاة والثقة بالله.
في الإسلام، مريم هي أطهرُ نساء العالمين وأعظمهنَّ مقامًا عند الله. فقد خُصّصت لها سورةٌ كاملةٌ في القرآن الكريم، وهي سورة مريم فيها تتجلّى ملامحها كانعكاسٍ حقٍ للنور الإلهي.
أيّها الحفلُ الكريم،
وجه مريم نقطة التقاء بين المسيحيّة والإسلام، يجسّد القيم العالميّة للطهارة والتواضع والإيمان بالله والخضوع لمشيئته.
بينما يحتفل المسيحيّون بالعذراء من خلال الأيقونات والتماثيل، لا تصوّر مريمُ في الفن الإسلامي بسبب الفكر المناهض للتجسّد. لكنّ هذا الإختلاف لا يشكّل عائقًا بل فرصةً للحوار والتلاقي.
في المسيحيّة، رؤية وجه مريم في الأيقونة توجّه القلب نحو الله، لأنّها “بابُ السماء”. في الإسلام، غيابُ الصورة يُفسحُ المجال للتأمّل الداخلي، حيث يسعى المؤمن إلى الشعور بحضور مريم من خلال قلبه وصلاته.
وفي الختام، إسمحوا لي أن أذكّركم أيّها الإخوة والأخوات أنّ ما يجمعنا في هذه السنة أيضًا وأيضًا، ليس زمن الصيام الّذي نحن في رحابه قائمون، فحسب، بل هو لقاؤنا المشترك في كنف والدتنا. والمثل اللبنانيّ الشهير يقول: “الإمّ بتلمّ!”
وجه مريم هو وجه أمّ تجمعنا تحت جناحيها وترمقنا بنظرات الوالدة الرؤوم… ولكم شاهدنا المسلمين والمسيحيّين في مزار سيّدة لبنان حريصا… وعيونهم شاخصةٌ بثقةٍ إلى وجه مريم… ينعمون بنظراتها الحانية.
ليس وجه مريم مجرّد صورة أو أيقونةٍ، بل هو دعوةٌ للقاء. وجهها العطوف الأمومي، يدعونا إلى تجاوز المخاوف والإنقسامات لنرى في الآخر أخًا في الإنسانيّة التائقة دومًا إلى الله. وكأمّ تسهر على أبنائها، تبشّرنا بالسلام كما حيّاها يومًا جبرائيل الملاك حاملُ بشائر الفرح، وتوصينا بوديعة السلام، لتكون مفتاحًا لحوارٍ صادقٍ بين المسيحيّين والمسلمين يسعى لبناء حضارة المحبّة.
وكلِّ عامٍ وأنتم بخير.