أعزائي، قُرّاءَ مَجلّةِ “الوَسيلةِ” الغَرّاءِ، قد تَسألُونَني عنِ الصَّومِ ومَعانيهِ، وها أنا أُجيبُ باختِصارٍ، على قَدرِ طاقَتي، بِما أُؤمِنُ أنّهُ جَوهَرُ الصَّومِ وغايَتُه، مُتَمنِّيًا لَكُم جَميعًا صَومًا مُبارَكًا، طالِبًا لَكُم مِن لَدُنِ اللهِ القَديرِ كُلَّ الخَيراتِ والبَرَكاتِ، آمِلًا أن تَذكُروني في صَلَواتِكُم.
الصَّومُ ليسَ مُجرَّدَ مُمارَسَةٍ ظاهِريّةٍ أو طَقسٍ روتينيٍّ، بَل هو مَسيرَةٌ روحيَّةٌ تَهدِفُ إلى تَجديدِ الإنسانِ مِنَ الدّاخلِ، واستِعدادِهِ للقِيامَةِ معَ المَسيحِ. هو تَحوُّلٌ عَميقٌ يُحرِّرُ النَّفسَ مِنَ العاداتِ التي تُقيِّدُها، ويَقودُها إلى نُورِ الحَقيقَةِ والحُرِّيَّةِ التي يَهبُها اللهُ لِبَنيهِ. إنَّهُ عُبورٌ مِنَ الظَّلامِ إلى النُّورِ، ومِنَ العُبودِيَّةِ إلى الحُرِّيَّةِ، ومِن حَياةٍ سَطحيَّةٍ إلى شَرِكَةٍ حَقيقيَّةٍ معَ اللهِ.
الصَّومُ هو مِفتاحُ الحُرِّيَّةِ الحَقيقيَّةِ، حَيثُ يَدعو الإنسانَ إلى استِكشافِ أعماقِهِ، واكتِشافِ مَواضِعِ ضَعفِهِ، والاستِعدادِ للتَّجديدِ والنُّضجِ الرُّوحيِّ. إنَّهُ زَمَنُ المُسامَحَةِ والمُصالَحَةِ والعَطاءِ، حَيثُ يَتَجَدَّدُ الإيمانُ وتَنفتحُ النَّفسُ لاستِقبالِ النِّعمَةِ الإلهيَّةِ. وهو أيضًا دَعوَةٌ للخُروجِ مِنَ الرُّوتينِ الرُّوحيِّ والمُمارَساتِ الشَّكلِيَّةِ، والعَودَةِ إلى العِلاقَةِ الحَيَّةِ معَ اللهِ، فَنَستَعيدُ الشَّغَفَ والحَيَوِيَّةَ في مَسيرَتِنا الإيمانيَّةِ.
في عالَمٍ مَليءٍ بِالضَّوضاءِ والانشِغالاتِ، نَحنُ بِحاجَةٍ إلى الصَّمتِ لِنَسمَعَ صَوتَ اللهِ. لَقَد كانَ المَسيحُ نَفسُهُ يَنسَحِبُ إلى الخَلوَةِ لِلصَّلاةِ، لِيُعَلِّمَنا أنَّ الإصغاءَ إلى الرُّوحِ القُدُسِ ضَروريٌّ لإعادةِ توجيهِ الحَياةِ نَحوَ ما يَستَحِقُّ الالتِزامَ والتَّكريسَ. يَقولُ القَدِّيسُ يُوحنّا الصَّليبِ: “اللهُ يَتَحَدَّثُ في الصَّمتِ”. فَلنُخَصِّصْ وَقتًا يَوميًّا لِلصَّلاةِ، لِلتَّأمُّلِ في كَلِمَةِ اللهِ، وَلنُمنَحْ قُلوبَنا مِساحَةً لِعَمَلِ النِّعمَةِ الإلهيَّةِ، فَنَعيشَ الصَّومَ كَواقِعٍ داخِلِيٍّ يَقودُ إلى التَّغييرِ الحَقيقيِّ.
إنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنّا “قُبورًا” داخِلِيَّةً، مَواضِعَ ضَعفٍ وألَمٍ وخَطايا تُثقِلُ الرُّوحَ وتُبعِدُنا عنِ اللهِ. الصَّومُ يَدعُونا إلى مُواجَهَةِ هذِهِ القُيودِ، والخُروجِ مِنها بِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ، لِنُزيلَ الحِجارَةَ التي تُغلِقُ مَداخِلَ قُلوبِنا ونَفتَحَها لِنُورِ المَسيحِ لِيُضِيءَ فيها. هو زَمَنٌ نُدرِكُ فيهِ أنَّ القَبرَ لَيسَ نِهايَةً، بَل نُقطَةُ انطِلاقٍ لِحَياةٍ جَديدَةٍ في المَسيحِ.
الصَّومُ فُرصَةٌ مُقَدَّسَةٌ يَمنَحُها اللهُ لَنا لِنَقتَرِبَ مِنهُ أكثَرَ، لِنُعيدَ تَرتيبَ أوَّلَوِيّاتِنا، ولِنَختَبِرَ التَّغييرَ الحَقيقيَّ في أعماقِنا. فَلنَخرُجْ مِنَ الظَّلامِ إلى نُورِ القِيامَةِ، ونَعيشَ الصَّومَ لا كَوَاجِبٍ جَسَدِيٍّ فَحَسب، بَل كَزَمَنٍ مِنَ النِّعمَةِ، حَيثُ تَتَحوَّلُ قُلوبُنا إلى هَياكِلَ حَيَّةٍ لِلرُّوحِ القُدُسِ. فَهَل نَحنُ مُستَعِدُّونَ لِلسَّيرِ في هذِهِ الرِّحلَةِ والقِيامَةِ معَ المَسيحِ؟
في هذَا الزَّمَنِ المُقَدَّسِ، حَيثُ نَدخُلُ معَ المَسيحِ دَربَ الصَّومِ والصَّلاةِ والتَّوبَةِ، لِنَجعَلَ مِن صَلاتِنا فِعلَ رَجاءٍ ومَحبَّةٍ، ولِنَلتَفَّ حَولَ مَذابِحِ الرَّبِّ طالِبينَ شَفاعَةَ العَذراءِ مَريمَ والقَدِّيسينَ، كَي يَحِلَّ السَّلامُ في وَطنِنا، ويَنعَمَ اللهُ عَلَينا بِالحِكمَةِ والعَزاءِ والقُوَّةِ. فَلُبنانُ اليَومَ يَحتاجُ إلى صَلَواتِنا، كَما يَحتاجُ إلى شَهادَةِ إيمانِنا الحَيِّ.
لِيُبارِكْكُم اللهُ، وَيُعِد عَلَينَا جَميعاً هذَا الزمَنَ الْـمُقدَّسَ، وَنَحْنُ في اتِّحادٍ، ونَجاحٍ وصِحَّةٍ وأَمانٍ.
المطران إبراهيم مخايل إبراهيم
الصوم ليس ممارسة ظاهرية ، بل مسيرة روحية
