يشرّفني اليوم أن أشارك في هذه الندوة الّتي تتكلّم على دور الإمام المغيّب موسى الصدر، الّذي كان دورا” مفصليّا” في ستّينات وسبعينات القرن الماضي من تاريخ لبنان والقضيّة اللبنانيّة على المستوى الإقليمي والدولي.
فقد عرف الإمام الصدر بخطابه التوحيدي وسعيه الدائم للحوار والمصالحة بين الطوائف اللبنانيّة، والّتي اعتبرها نعمة”، فيما اعتبر الطائفيّة نقمة، في زمن كانت فيه البلاد تسير نحو الإنقسام والحرب، فعمل جاهدا” لطرح مبادرات تحتوي التوترات وتعزّز دور الدولة وترسّخ مبادئ المواطنة.
خاض الإمام الصدر تجربة فكريّة وسياسيّة وإصلاحيّة مبكرة في لبنان، لا تزال مفاعيلها حاضرة في الخطاب الوطني، فقد واجه الإقطاعيّة السياسيّة، وقاد ثورة المحرومين، فأضحى نموذجا” جديدا” يجمع بين الدّين والحياة الإجتماعيّة الّتي تضمن كرامة الإنسان في ظل غياب العدالة الإجتماعيّة خاصة” في الأطراف والمناطق الريفيّة، لا سيّما في الجنوب والبقاع.
وترافقت حركته مع تصاعد الإنقسامات السياسيّة من خلال الصراع بين القوى اليمينة والحركات اليساريّة وما رافقها من تدخلات إقليميّة كان لها التأثير الكبير في إشعال الفتنة بين اللبنانيّين، فكانت “الحرب الأهليّة” أو إذا صحّ التعبير – حرب الآخرين على أرض لبنان – وهذا ما دفع الإمام إلى اتخاذ مبادرات تسعى إلى المصالحة الوطنيّة – كي ينجو الوطن.
من الرؤيا إلى المبادرة
اتّخد الإمام الصدر عدّة مبادرات تهدف إلى المصالحة الوطنيّة فبرز أهمّها:
1- خطاب الوحدة الوطنيّة: في هذا الإطار، دعا إلى اعتبار لبنان وطن نهائي لكل أبنائه، وأكّد أنّ الخطر الحقيقي ليس في تعدّد الطوائف، بل في استغلال الطائفيّة سياسيّا”، كما رفض كل أشكال الكتابات التحريضيّة، وكان يدعو رجال الدّين من مختلف الطوائف إلى لعب دور توحيدي.
2- أسّس المجلس الإسلامي الشّيعي الأعلى 1969، وجعل منه منبرا” للحوار الوطني، ودعا من خلاله إلى تحقيق العدالة الإجتماعيّة، والمشاركة العادلة في الدولة، لكنّه شدّد على العمل ضمن إطار الدولة اللبنانيّة.
3- أسّس هيئة نصرة الجنوب مع المرجعيّات الروحيّة المسيحيّة والإسلاميّة، فضمّت أساقفة الجنوب والمفتين والمسؤولين عن القوى السياسيّة، وكان هدفها الحفاظ على الوحدة الوطنيّة المسيحيّة الإسلاميّة في الجنوب في مواجهة الإعتداءات الإسرائيليّة.
4- قاد مبادرات مصالحة بين الحركة الوطنيّة آنذاك والأحزاب المسيحيّة، ورفض الإنخراط في الصراع المسلّح، وأطلق دعوات متكرّرة لوقف القتال محذّرا” من الإنزلاق إلى الفتنة الداخليّة الّتي تهدّد وحدة لبنان.
5- أسّس حركة افواج المقاومة اللبنانيّة – أمل – وأرادها قوّة لبنانيّة لا طائفيّة، هدفها الدفاع عن لبنان وليس الإنخراط في حرب أهليّة، وفي هذا المجال حاول أن يجعل منها نموذجا” للتعايش الوطني.
6- كرامة الإنسان والدولة المدنيّة، وفي هذا المجال قال: “الإنسان هو هدف الأديان”، لذلك دعا إلى احترام كرامة الإنسان أيّا” كانت طائفته أو دينه. كما دعا إلى قيام الدولة المدنيّة الحديثة الّتي تقوم على العدالة والمساواة، وشدّد على التوازن والشراكة في الحكم، والإنصاف في توزيع الخدمات، والتنمية.
7- لبنان الرسالة والحياد
إنطلاقا” ممّا تقدّم، أكّد الإمام في أكثر من مرّة: “إنّ لبنان المتعدّد الطوائف هو رسالة للشرق وللغرب، إنّه نموذج للوحدة في التنوّع”.
كما دعا إلى حياد لبنان، ورأى فيه وسيلة” لحماية لبنان من التورّط في حروب لا تخدم مصالحه، وللحفاظ على دوره كأرض حوار وتلاقي بين الحضارات والأديان.
خاتمة
لقد شكّلت مبادرات الإمام موسى الصدر للمصالحة الوطنيّة، نموذجا” فريدا” في مقاربة الأزمات اللبنانيّة من خلال الدعوة إلى الوحدة والمساواة والحوار. ويظهر مساره السياسي والديني إمكانيّة التأسيس لنهج وطني جامع، بعيدا” عن الإنقسامات الطائفيّة الضيّقة، ولا تزال رؤيته صالحة ومصدر إلهام لبناء دولة المواطنة في لبنان.
ويعتبر الإرث الوطني لموسى الصدر مرجعا” في فكر المصالحة الوطنيّة، كما وتستعاد مبادراته بشكل أو بآخر عند كل أزمة لبنانيّة.
واختم لأقول، أنا لم أعرفك، قرأتك، أحببتك…
ولنعمل جميعا” ليبقى لبنان
مداخلة المونسنيور عبده ابو كسم في ندوة – حتى ينجو الوطن – مبادرات الإمام الصدر للمصالحة الوطنيّة






