ستون سنة على صدور وثيقة *في عصرنا* التي شكلت تحولاً تاريخيا في علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الديانات غير المسيحية

صادفت يوم أمس الثلاثاء الذكرى السنوية الستون لصدور الإعلان المجمعي في عصرنا أو Nostra Aetate بشأن علاقة الكنيسة الكاثوليكية مع الديانات غير المسيحية، ومما لا شك فيه أن تعاليم البابوات وتأملاتهم بشأن هذه الوثيقة الهامة، بدءا من البابا بولس السادس، تسليط الضوء على مبدأ أساسي ألا وهو أخوة الجنس البشري.
الوثيقة المجمعية التي يُحتفل بها في هذه الأيام تبناها آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، وصادق عليها البابا الراحل بولس السادس، تُعتبر نصاً مؤسساً للحوار مع باقي الديانات. وقد صدرت في الثامن والعشرين من تشرين الأول أكتوبر ١٩٦٥، وقد سبقها، قبل صياغة نصها، لقاء تاريخي بين البابا يوحنا الثالث والعشرين والمؤرخ اليهودي جول إسحاق، الذي طلب من البابا رونكالي، في العام ١٩٦٠، أن تتبنى الكنيسة الكاثوليكية نظرة جديدة للعلاقات مع اليهودية، في وقت كانت فيه البشرية تعاني من الجراح التي خلفتها الحرب العالمية الثانية.
وثيقة “في عصرنا” أبصرت النور ضمن سياق تاريخي تلا المحرقة النازية، والتي كانت محاولة من قبل ألمانيا النازية لإبادة الشعب اليهودي. وجاءت الوثيقة لتسلط الضوء على مبدأ أساسي ألا وهو الترابط بين مختلف الشعوب، وحاولت أن تُظهر أن للعائلة البشرية مصدراً واحداً وأن مخطط الله الخلاصي والرحمة الإلهية يعانقان الجميع. وإذ أشارت الوثيقة إلى الاختلافات القائمة بين البشر، أكدت أن الشعوب كافة تشكل جماعة واحدة، لأن مصدرها واحد ألا وهو الله وقد أراد منها أن تعيش على وجه الأرض كلها.
البابا بولس السادس وفي سياق حديثه عن Nostra Aetate قال مرة إن العهد القديم في الكتاب المقدس يشكل وحياً إلهيا، قبل مجيء المسيح، مشيرا إلى أن سفر المزامير يعكس غنى الصلوات والكلمات التي نخاطب فيها الله، وأضاف أن هذا الحس الديني موجود أيضا لدى الديانات غير المسيحية، وقد طالب المجمع الفاتيكاني الثاني بأن تُقدر وتُحترم.
أما البابا يوحنا بولس الثاني وفي سياق الاحتفالات بالذكرى السنوية الخامسة والعشرين لصدور الوثيقة التقى في العام ١٩٩٠ بممثلين عن اللجنة اليهودية الدولية للمشاورات بين الأديان، وأعضاء لجنة العلاقات الدينية مع اليهود، وشدد في المناسبة على حيوية هذا النص المجمعي، الذي يُنظر إليه أيضا على أنه نقطة تحول في علاقات الكنيسة الكاثوليكية مع الديانة اليهودية، خصوصا وأن الوثيقة تؤكد على أن إيمان الكنيسة كان موجوداً في آباء العهد القديم، في موسى والأنباء، قبل مجيء المسيح. كما أن الكنيسة تدرك تماما أن الأسفار المقدسة تشهد للشعب اليهودي على كونه جماعة من المؤمنين وحافظا لتقليد عريق يعود لآلاف السنين، وهو بالتالي جزء لا يتجزأ من سر الوحي والخلاص.
فيما يتعلق بالإسلام تؤكد الوثيقة المجمعية على أن الكنيسة تنظر بأعين التقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأوحد، الحي الرحوم الكلي القدرة، خالق السماوات والأرض والذي خاطب البشر. وفي الذكرى السنوية الأربعين لصدور الوثيقة، أعلن البابا بندكتس الساس عشر، في الثلاثين من تشرين الأول أكتوبر ٢٠٠٥ أن Nostra Aetate لم تفقد شيئاً من آنيتها. وهذه الوثيقة ما تزال آنية لأنها تنطلق من مبدأ أساسي ألا وهو أن جميع البشر يشكلون جماعة واحدة وأنه من واجب الكنيسة أن تعزز الوحدة والمحبة بين الشعوب. كما أكد المجمع أن الكنيسة لا تنبذ شيئا مما هو حقّ ومقدس في الديانات الأخرى وتعلن على الجميع المسيح، الطريق والحق والحياة، والذي يجد فيه البشر ملء الحياة الدينية.
وفي الذكرى السنوية الخمسين لصدور الوثيقة شاء البابا فرنسيس في الثامن والعشرين من أكتوبر ٢٠١٥ أن يتحدث عن درب الأخوة، وتوجه إلى اليهود والمسلمين والهندوس والبوذيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى قائلا لهم إننا أخوة، وهو مفهوم شددت عليه أيضا وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها البابا برغوليو مع إمام الأزهر أحمد الطيب في أبو ظبي في شباط فبراير من العام ٢٠١٩.