زيارة البابا إلى تركيا هي رسالة للمؤمنين وغير المؤمنين

الكاهن الدومينيكاني الإيطالي كلاوديو مونج، مدير المركز المعني بالحوار ما بين الثقافات التابع الدومينيكان في إسطنبول يعلّق على الزيارة الرسولية الأولى للبابا لاون الرابع عشر إلى تركيا، ويذكر بإنتظارات الجماعة المسيحية والتغييرات الجارية في الكنيسة المحلية، بالإضافة إلى إنتظارات السلطات السياسية، ودور الحوار، والرجاء للسلام في الشرق الأوسط.
أعتقد أن قرار البابا لاون الرابع عشر ببدء زيارته الرسولية الأولى إلى تركيا رسالة بالغة الأهمية، موجّهة إلى جميع المؤمنين، وليس فقط الى المسيحيين المقيمين هناك”. وبهذا المعنى، “يُبدي المؤمنون الحقيقيون، بمن فيهم المسلمون، اهتمامًا كبيرًا بما سيحدث، واثقين أنه سيحمل تداعيات مهمّة على استمرارية العلاقات اليومية” مع الطوائف والديانات الأخرى. هذا ما قاله الكاهن الدومينيكياني كلاوديو مونج، الذي يعيش في البلاد منذ 24 عامًا، في مقابلة مع وسائل إعلام الفاتيكان من إسطنبول، حيث يُدير مدير المركز المعني بالحوار ما بين الثقافات التابع الدومينيكان في إسطنبول قبل شهر من زيارة البابا إلى تركيا من 27 إلى 30 تشرين الثاني/نوفمبر، ثم إلى لبنان حتى 2 كانون الأول/ ديسمبر.
وأوضح قائلًا: “نعيش في عالمٍ صغيرٍ للغاية، لذا فإن حدثًا كهذا يُؤثّر فينا بعمق، لا سيما بسبب التفاوت” بين أهميته و”عدد الأشخاص الذين يعترفون بأنهم مسيحيين في هذا البلد”. من ناحية أخرى، “نشعر بالفخر والتشجيع لاستمرار الاهتمام في بلدنا”، “أرضٌ مقدسةٌ حقيقيةٌ للمسيحية، ومركزٌ تاريخيٌّ وأثريٌّ عالميٌ، وهو اليوم محورٌ حاسمٌ على الساحة السياسية الدولية”. وقال مُعبّرًا عن حماسه: “منذ زيارة البابا بولس السادس، مرّ جميع الباباوات تقريبًا بهذا المكان”، فبعد زيارة البابا بولس السادس، الذي أتى عام ١٩٦٧، جاء دور البابا يوحنا بولس الثاني عام ١٩٧٩، والبابا بندكتس السادس عشر عام ٢٠٠٦، وأخيرًا البابا فرنسيس عام ٢٠١٤. ويُعدّ البابا يوحنا بولس الأول، الذي توفي عام ١٩٧٨ بعد ٣٣ يومًا فقط من انتخابه، استثناءً.
هذه الزيارة، في هذه الحالة، موعد مهم للغاية، “لأن البابا فرنسيس كان قد أعرب عن نيته بالمجيئ الى هنا” للاحتفال بذكرى مرور ١٧٠٠ عام على انعقاد مجمع نيقية، الذي أدى إلى صياغة قانون الإيمان المعروف باسم “قانون الإيمان النيقاوي-القسطنطيني”، على الرغم من أن البابا فرنسيس اضطر لاحقًا إلى إلغاء رحلته بسبب تدهور صحته. “ما أثار دهشتنا ليس قرار البابا لاون الرابع عشر بالوفاء بالتزام سلفه، بل رغبته هو نفسه في المشاركة شخصيًا في هذه الزيارة، بمختلف مواعيده الرعوية”. وبالنهاية، من خلال الجمع بين زيارة تركيا ولبنان، “لا شك في أن النية كانت إعطاء هذه الرحلة طابع خاص”، يحمل قيمة جيوسياسية تمتد إلى المنطقة بأسرها.
فيما يتعلق بالجماعات المحلية، يضيف الأب مونج: “نرغب في أن نكون قادرين على التعبير عن كنيسة مصغية تعرف كيف تنمّي هذه السمة حتى في داخلها، من خلال حوار ناضج”، ولتحقيق ذلك، هو مقتنع بأن الجوهر هو “مقاومة إغراء الموقف القائم على الهوية فقط”، وهو فخّ غالبًا ما تقع فيه الأقليات العددية. ويقول: “سيكون ذلك مُخزياً”، لأن هذا الاحتفال بأول مجمع مسكوني في التاريخ “له معنى إذا تمكنا من فهم نطاقه وأهميته في عصرنا الحالي”، وتجنّبنا جعله “حنينًا إلى الماضي”.
في الوقت الحاضر، كما في القرن الرابع، “هناك دعوة إلى الوحدة المرئية: وهنا تكمن الحداثة العظيمة، حتى بعد مرور ١٧٠٠عام”. إن الدعوة هذه، التي جاءت من الامبراطور قسطنطين، وبالتالي من السلطة الدنيوية، “عبّرت عن القناعة أن وحدة الإمبراطورية تفترض، بطريقة ما، وبدون قيد أو شرط، وحدة الإيمان أيضًا”. واليوم، وبعد مرور عدة قرون، “أعتقد أن عيش هذا الأمر وجعله ‘بوصلة ترشدنا نحو الوحدة الكاملة المرئية لجميع المسيحيين’ (كما أعلن البابا لاون الرابع عشر في تشرين الثاني/ يونيو الماضي) لا يعني إظهار ‘الوحدة في التماثل، بل الوحدة كتنوع متصالح'” فهي “طريقة متجددة لعيش نداء الإنجيل”.
أما على المستوى السياسي، فـ “يُنظر الى البابا، في المقام الأول، كرئيس دولة ويُعترف بتأثيره العالمي”، كما أوضح الأب مونج. وستكون زياراته الأولى، وفقًا للبرنامج الذي أصدره دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي، إلى أنقرة للقاء رئيس الجمهورية وزيارة ضريح أتاتورك. وعلى المستوى الديني والروحي، “بالنسبة لنا كمسيحيين، يكمن التحدي في محاولة تحويل هذا الحدث ليس إلى نقطة نهاية، وإنما وبشكلٍ خاص إلى نقطة بداية ونقطة تطور في الشهادة لما نحن عليه ككنيسة وككنائس”.
إن الجماعات تلتزم باستمرار في الحوار المسكوني، بما في ذلك مع الطوائف غير المسيحية، ضمن الحدود المسموح بها. ويؤكد الأب مونج أن “الحوار هو في الواقع لقاء بين الأشخاص وليس علاقة بين أنظمة أو مفاوضة نظرية”. وبعبارة أخرى، “إن هذا صحيح بقدر ما يقبل الأشخاص الذين يؤمنون إيمانًا عميقًا بما يفعلونه المخاطر المتمثلة في أن مواجهة الاختلاف ستدفعهم إلى تجديد وإنعاش شهادتهم”.
لهذا السبب، تُعتبر الجماعة المسيحية في تركيا “واقعًا في تطور مستمر” تمامًا كما تشهد الكنائس نفسها “تحولًا شيئاً فشيئاً”. ومن الأمثلة على ذلك حقيقة أن “الكنيسة اللاتينية، التي لا طالما كانت تُعتبر كنيسة للأجانب، يجب أن يتم تحويلها اليوم: لأن جماعتنا تأخذ أيضًا طابعاً تركياً، وهذا حافز لنا، وحقيقة تُسائلنا. أعتقد أنها علامة على عمل الروح القدس، على الرغم من كل شيء، فعندما احتفل البابا فرنسيس بالقداس الالهي في كاتدرائية الروح القدس في إسطنبول عام ٢٠١٤ (بحضور البطريرك المسكوني برثلماوس)، ذكّرنا بأن هذه ليست روح التطابق، بل هي دعوة لمشاركة ثروات التنوع الذي يعمل يوميًا من أجل المصالحة، وليس للدفاع عن أرضه”. وهكذا، فإن “النمو الخاص لعدد قليل من الأشخاص الذين يشكلون أيضًا الوجه التركي للكنيسة يمثل فرصة وتحديًا في آن واحد”، وعلى الكنيسة “أن تجد بُعدها الخاص، لا أن تستورده فحسب، لأن الإنجيل يخاطب ثقافات محددة، ويعرف كيف يُسائلها ويتحداها”. إنها دعوةٌ للإصغاء باهتمامٍ أكبر، لأن هؤلاء هم الجيل الأول من المؤمنين، ولكنيسةٌ تكون التعبير الكامل لهذه الثقافة. ويُقرّ الأب مونج بأن هذا تحديٌ بالتأكيد.
وتعليقاً على السؤال حول الأحداث الجيوسياسيّة في غزّة والحذر إزاء وقف إطلاق النار، يقرّ الأب مونج بحذر: “من السابق لأوانه، في رأيي، الحكم على ما يحدث في غزة والشرق الأوسط، ففي هذه الأثناء، نُدرك أن هناك حديثًا عن هدنة، ولكن وسائل الإعلام توقفت عن تغطية العنف اليومي، الذي للأسف لم يتوقف تمامًا. ويبقى عددٌ هائلٌ من الأسئلة بدون إجابات”. لذلك، يُتابع: “من السابق لأوانه الحديث عن السلام فمن يعيش هذه المعاناة يوميًا” يعلم جيدًا أن الجروح لا تلتئم بسرعة. “ففي لبنان أيضًا، هناك قصف يومي”. ويضيف: “إنها مرحلة حاسمة، ونحن نصلي من أجلها”. وخلص إلى القول: “لكننا لن ننتقل من هشاشة الهدنة إلى منظور جديد إلا عندما تُضمن العدالة الحقيقية: وكما قال البابا، يجب علينا أولًا أن نجرّد أسلوب تعاملنا مع الآخرين من الأسلحة وتعيد التفكير في كرامتهم وحقوقهم وصرختهم من أجل العدالة”.