جامعة الروح القدس – الكسليك تكرّم إدمون رزق كلمةُ الأب البروفسور جورج حبيقة النائبِ العام في الرَّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة والرئيسِ الفخريّ لجامعة الرّوح القدس الكسليك في قاعةِ البابا يوحنّا بولس الثاني في جامعةِ الرّوحِ القدس الكسليك

كلمةُ الأب البروفسور جورج حبيقة
النائبِ العام في الرَّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة والرئيسِ الفخريّ لجامعة الرّوح القدس الكسليك
في قاعةِ البابا يوحنّا بولس الثاني في جامعةِ الرّوحِ القدس الكسليك
نهارَ الخميس الواقعِ فيه 8 أيار 2025
الساعة السادسة مساء
أيها الحضورُ الكريم،
ونحن نتحلّقُ في هذه الأمسية حول شخصيّةٍ فذَّة، قلَّ نظيرُها، تتقاطعُ الآراءُ فيها تعظيمًا وتبجيلا، ينتابني شعورٌ عجبٌ عاجِب، أشعرُ وكأنّني أنا أتكرّمُ. لا غروَ من هذا الشُّعور. دائمًا عندما نكرِّمُ الكبارَ، نتكرَّمُ ونرتفعُ ونرتقي. إنَّ معرفتي بصاحب المعالي والسّعادةِ الأستاذ إدمون رزق تعودُ إلى طفولتي في قرية الميدان في قضاء جزين، الّتي تستلقي بخفرٍ على تَغضُّناتِ سَفحٍ حالمٍ مخضوضرٍ، ينطلقُ من جوارِ ديرِ سيّدةِ مشموشة لينغمِسَ في نهر الإسكولاب في وادي بسري الضّاربِ في عمق التّاريخ. في هذه القرية الوادعة، كنتُ أرى شخصًا مليئًا بالحيويّة، طافحًا باللُّطف واللّياقة، فصيحًا أخّاذًا، مثقّفًا ثقيفًا، مُناقشًا حَذقًا، وقورًا ومُجِلاًّ للآخر، يتكلّمُ ويُصغي باهتمامٍ بالغ. إنّه إدمون رزق، في الكنيسة، في المناسبات الاجتماعيّة، في مجالس السّياسةِ والأُنسِ والفكرِ والأدبِ والشّعر، في زيارات الافتقاد والاطمئنان، في الأفراح والأتراح، في الحملات الانتخابيّة، إلخ… لم يدعْ أيَّ نوعٍ أدبيّ ولم يعالجْه بمواهبه اللّغويّة، والتحليليّة والحقوقيّة، والتّاريخيّة والسّياسيّة. عندما يجتمعُ التضلُّعُ المدهشُ من اللّغة العربيّة، والخيالُ المجنّحُ والتبحُّرُ التحليليّ والثّقافةُ الواسعة والمتنوّعة، نكونُ أمام الإبداع الفاتن. في مهامِّه التّعليميّة كمدرّسٍ وناقلٍ للمعرفة، ومحامٍ وصحافيٍّ وإذاعيٍّ يطاردُ الحقيقة، وفي نشاطه الحزبيّ النّموذجيّ والرّاقي في حزب الكتائب اللّبنانيّة، وفي مهامه التّشريعيّة كنائب عن الأمّة، وفي مهامّه التّنفيذيّة كوزير في حقيبتي التّربيةِ الوطنيّةِ والفنون الجميلة والعدل، كان إدمون رزق يُجسِّدُ بأبهى صورةٍ التّحديدَ الذي أطلقَه رجلُ الدِّينِ والمفكّرُ الأميركيّ في القرنِ التّاسعَ عشر James Freeman Clarke حول البَونِ الشاسع بين رَجُلِ السِّياسة الّذي يفكّرُ أبدًا في الانتخابات القادمة ورَجُلِ الدَّولةِ الذي يفكِّرُ أبدًا في الأجيالِ القادمة. كان إدمون رزق مثالَ رجلِ الدّولةِ الذي يقضُّ مضجعَه همُّ الأجيالِ الصّاعدة وهمُّ الإنسان المتألّمِ والقلقِ في بلد الأرز وهمُّ رسوليّةِ الكيانِ اللُّبنانيّ. من رَحِم الأوجاعِ وُلدت مؤلَّفاتُه. وهكذا نراه يتنقَّلُ بعبقريّة، على إيقاع الضّيقِ الوجوديّ والحرجِ النفسي، بين الوِجدانيّاتِ المتراقصةِ على لواعج الفؤاد في “رنين الفرح” و”حَباب الماء” و”نشيد الغربة”، والفنِّ القصصيِّ الـمُستقى من الميثولوجيا الإغريقيّة في “الـمِلقط”، ومقارباتٍ سياسيّة ومجتمعيّة ووطنيّة في “آراء ودماء” و”في سبيل لبنان”. تأمُّلاتُه في شخص المسيح تجمعُ ببراعة براءةَ الطّفلِ المتدرّج في المشاعر الدّينيّة والإيمان، إلى اكتمال شخصيّة الرّاشدِ المتذهِّنِ اللاّهوتَ المسيحيَّ وعظمتَه. في مؤلَّفِه “في كنف المسيح”، يقولُ إدمون رزق: “لأمّي، أنا مدينٌ بأوّلِ إشارةِ صليبٍ رسمتُها على جَبيني، وأوّلِ صلاةٍ تلوتُها، وما أضاءَ حياتي من إيمان… ويتابع: “ثم كانت مدرسةُ دير سيّدة مشموشة، التربةَ الأخصبَ لتأصيلِ الإيمان، والمجالَ الأرحبَ لممارسة الشّعائر، وتوطيدِ الصِّلة بين العُمقِ المسيحيّ والبُعدِ الإنسانيّ، وما بينهما من حِرصٍ على الحقيقةِ اللّبنانيّة، المتجلّيةِ في الانفتاح على الآخر، والاندماجِ التكامليّ بين مختلِفِ العائلات الروحيّة، في وطن ’الصّيغةِ الحضاريّة الفريدة‘.”
إنَّ تشديدَ إدمون رزق على الرّابط الحميم بين البُعدِ المسيحيّ والبُعدِ الإنسانيّ وعلى ترجمة المعتقدات الدّينيّة في أنماطٍ وسلوكيّاتٍ مجتمعيّة ومبادئَ سياسيّة، تلقَّنها في رحاب مدرسة ديرِ سيّدة مشموشة، حيث جميعُ العائلاتِ الرّوحيّةِ اللّبنانيّة كانت تنهلُ معا المعرفةَ المؤنسنةَ والمحرّرة، يُرجعُنا إلى أرجاء أبرشيّة إنطاكية. هناك وُلدنا في حُضن التّنوّع اللّغويّ والمجتمعيّ. فالمدنُ السّاحليّة كانت تتكلّمُ اللّغةَ اليونانيّة، والمدنُ والقرى الدّاخليّة، كانت تتكلّمُ اللّغةَ السّريانيّة. أبرشيّةٌ واحدة، في ثقافتين. وكان لزامًا على أُسقفِ إنطاكية أن يُتقنَ لغتينِ للتواصل مع أبنائه. وعندما طُرحت مسألةُ الطّبيعتين في المسيح، الإلهيّةِ والإنسانيّة، وأجمعتْ كلُّ الكنائسِ على الاعتراف بطبيعة المسيح الإلهيّة، واندلع الخلافُ على الطّبيعة الإنسانيّة، كان الموارنةُ الأوائلُ في دير مار مارون والقرى المجاورة من أشدِّ المدافعينَ عن طبيعة المسيح الإنسانيّة. فكما حدَّد مجمعُ خلقيدونيا أنّ الطبيعتين في المسيح كانتا في وحدة كاملة، من دون أن تُذوِّبَ الطّبيعةُ الإلهيّةُ الطّبيعةَ الإنسانيّة، ومن دون أن تطغى الواحدةُ على الأخرى، هكذا حملَ الموارنةُ الأوائلُ في فكرهم وفي لاوعيهم هذه العقيدةَ الدّينيّة الأساسيّة، وراحوا يترجمونها في ترحالهم في بُعدٍ إنسانيّ وسياسيّ، قائمٍ، من جهة، على احترام الذّاتيّاتِ الخاصّة وتقديسِها ضمن مفهومِ الوحدةِ الحاضنةِ للتّنوّع، وعدمِ السّماح بأيّ استراتيجيّة تذويبيّة، وقائمٍ، من جهة ثانية، على احترامِ حقوقِ الانسانِ كاملةً، وفي طليعتها الحرّيّة، انطلاقا من نُصرتهم لطبيعة المسيح الإنسانيّة.
بهذا المخزونِ المسيحيّ العقائديّ، راح إدمون رزق يُدافعُ بكلِّ ما أُعطي من قوّةِ البيان وقدرةِ حبكِ البراهينِ والـحُججِ والدلائل، عن فرادةِ الصّيغة اللّبنانيّة وعظمتِها، أي عن مبدأ تآلفِ الاختلاف والعيشِ معا متمايزين، في وحدة التنوّع الخلاّق والمبدع. في دفاعه المستميت عن رسوليّة الكِيان اللّبنانيّ، لم يبخُلْ إدمون رزق بأيّ جهد ولم يقصّر بأيّ مبادرة من شأنها لجمُ محركّاتِ العنفِ العبثيّ وتغليبُ سطوةِ العقلِ والمنطقِ على الغرائزيّة القاتلة. فهو يقول: “بكيتُ حالَ وطني وأهلي، وصلّيتُ؛ صمدتُ، واعتصمتُ بإيماني، أقمتُ على عهدِ لبنانَ، فلم أساوم، ولم أتوقف عن الشّهادة. حضنتُ جزين، بلدتي ومنطقتي؛ أرسيتُ وحدتَها، مع قادتها، ولم أتردّد في تضحيةٍ من أجل سلامتِها. هُجِّرتُ مع المهجَّرين، ومع المضطَّهَدينَ اضطُهدتُ، وكالمخطوفينَ خُطفتُ، ولم أسلم، مع عائلتي، من جراحٍ، ونسفٍ، وقصفٍ، وعُدوان…”.
في الملفِّ السّوريّ الشّائك والمعقَّد والمزمن، كان لإدمون رزق جولاتٌ وصولات، بين 1960 و1965، وبين 1975 و1993. كتاباتُه تُشخّصُ بدقّةٍ مكامنَ التوتّرِ المستدام بين لبنانَ وسوريّا، والتوجُّسِ والخوفِ من النّظام الأسديّ الذي انتزعَ الحكمَ بالدّم، وبالدَّمِ حافظَ عليه، ودعَّم أساساتِه بمداميكَ من الجماجم. في المقابل، كان هذا النِّظامُ يُلهي شعبَه المقهورَ والمظلومَ والمعتقلَ في مساحات الرُّعب، بمغامراتٍ خارجيّة توسُّعيّة، كان للبنانَ منها، على مدى ما يُنيفُ على نصف قرن، النّصيبُ الأكبرُ من احتلالٍ وهيمنةٍ وقتلٍ واغتيالٍ وخطفٍ وتدميرٍ وامتصاصِ قدرات البلد وإلغاءِ الدستور وتعطيلِ الصّيغة اللّبنانيّة وفرادتها وديمقراطيّتِها التّوافقيّة. بالإضافة إلى خَشيته من النّظام الأسديّ، كانت أيضا ودائما تستوطنُ فكرَ إدمون رزق وخيالَه مشاهدُ سعيِ الأمير فيصل بن الحسين الحثيثِ لضمِّ لبنانَ إلى سوريّا في مفاوضات السّلام في ﭬرساي بعد الحرب العالميّة الأولى وانهيار السّلطنة العثمانيّة. فهو لم يفقِدْ ذكرَ لقاءِ التعارفِ العفويّ وغيرِ المتوقّعِ بين الأمير فيصل بن الحسين، ممثّلِ سوريّا، والمحامي إميل إده، ممثّلِ لبنان، على ظهر الباخرةِ المبحرةِ بهما إلى مرسيليا للمشاركة في مؤتمر الصّلح. في تجاذبِهما أطرافَ الحديث، قال الأميرُ فيصل للمحامي إميل إدّه، في تعليقه التهكُّميّ على مُسوّدة خريطة لبنان: “لا أدري يا أستاذ إده كيف تطالبونَ بدولةٍ مستقلّةٍ عن سوريّا وهي بما فيها من جبلٍ وساحلٍ تبقى صغيرةً جدًا ولها شكلُ حسكةِ السَّمكة؟ ألا تعرفُ أن مثلَ هذه الحسكةِ يسهُلُ ابتلاعُها.” فأجاب إميل إده مداعِبًا على الفور: “قد يكونُ لها شكلُ الحسكةِ، لكنّنا نعتبرُها حسكةً بالعرضِ لا بالطّول. ولذلك هي تخنقُ كلَّ من يحاولُ أن يبتلعَها”.
في مؤلَّفِه “العلاقةُ السُّورية”، يقولُ إدمون رزق: “فثمّةَ المسيحيّون، وأنا منهم، نشأوا وفي الأذهان خَشيةٌ مركَّزةٌ من الاحتواء السّوريّ، بتسمياته المتعدّدة، سوريّا الكبرى، الهلال الخصيب، الوَحدة، الاتّحاد…، المتوازيةِ في تحريك الشّعورِ بالخطر على الكِيان الأقلّيّ، المعتصمِ بتراثه الروّحيّ، والمسكونِ بالخوف على حرّيتِه في ممارسة شعائرِه، وتقريرِ مصيرِه، وانفتاحِه الحضاريّ، جبلاً موصولاً بالبحر غربًا، وبالسّهول المترامية شرقًا.”
لم يسجن إدمون رزق نفسَه في دائرة الخوف هذه، بل تجاوزها إلى رسم الإطار الصحيح للعلاقات الّتي يجب أن تُنسجَ بين لبنانَ والبلاد العربيّة. في مقارباته العديدة والمتشعِّبة، نقرأ ما يلي في كتابه “آراءٌ ودماء”: “نحن نؤمن، بأنّ بين لبنانَ والدّول العربيّة، شراكةً وقربى، وأنَّ بينهما صِلاتٍ وُثقى، ولكنها، في أيّ حال، لا تصلُ إلى حدِّ الانصهار والذّوبان، فلكلِّ دولةٍ خصائصُها الكيانيّة، وبنيتُها الاجتماعيّة، وتراثُها الحضاريّ، تقاليدُها وعاداتُها، نمطُ عيشِها ونظامُ حكمِها. ولأننا نريدُ فُضلى العلاقاتِ مع سائرِ الدّول العربيّة، نحرصُ على توضيح مفهومنا للعروبة، وأنّها تضامنٌ لا تعسكرٌ، وتعاونٌ لا تمحورٌ، وتبادلٌ إيجابيٌّ متساوٍ، لا تسلطٌ ولا هيمنةٌ” (آراءٌ ودماء، ص 136). لقد تصدّى إدمون رزق بصلابةٍ لا لينَ فيها لمفهوم الانصهار داخلَ التركيبة اللّبنانيّة وفي علاقات لبنانَ مع محيطه العربيّ. وفي المقابل، دعَّم بدون أيّ مساومةٍ المبدأَ الفلسفيَّ القائل: عليكَ أن تكونَ ذاتَك لكي تكونَ مع الآخرين.
إنَّ الانصهارَ الّذي تتناولُه وتُشدِّدُ عليه مرتين، بكلّ أسفٍ، نصوصُ اتفاقيّة الطائف ويطفو كزبدٍ مَرَضيٍّ على سطح الخطب السّياسيّة، إنما هو مصطلحٌ يُستعمَل، أصلاً وحصراً، للمعادن الّتي تدخلُ متنوّعةً إلى الأتّون لتخرجَ منه شكلاً واحدًا ولونًا واحدًا وتركيبًا كيميائيًا واحدًا. فلبنانُ لم يعشْ قطُّ هذه الحالةَ الانصهاريّةَ المذوّبةَ لحقِّ الآخر في الاختلاف. تقومُ رسالةُ لبنانَ الاجتماعيّةُ والسّياسيّة، كما يبلورُها إدمون رزق في كتاباته، على أنّه ليس مطلقاً مشروعَ انصهارٍ، بل دائماً مشروعُ وحدةٍ إنسانيّةٍ ووطنيّةٍ بين عائلاتٍ روحيّةٍ ومجموعاتٍ إثنيّة وثقافيّةٍ وحضاريّة، على شاكلة وحدة الجسد القائمة على التكاملِ الوظيفيّ بين خلايا وأعضاءٍ لا يجمعُها إلاّ الاختلافُ في التآلف. وكما كانت الفلسفاتُ اليونانيّة تنطلقُ من هيكليّةِ الجسد البشريّ لتضعَ تصوّراً لأكمل تصميمٍ إداريّ للمدينة الفاضلة والمثاليّة، كذلك علينا أن ننظُرَ إلى سرِّ الحياةِ الذي يأخذُ من جسدِنا مدىً مميّزاً لتمظهره. هل أمعنّا النظرَ في وظيفةِ كلِّ عضوٍ وكلّ خليّة، وكيف يتمُّ التكاملُ والتناسقُ في التّمايز؟ إذا انصهر جسدُنا وأصبح عضوًا واحدًا، هل يبقى حيًا؟ ألا تهجرُه الحياةُ وتدعُه أشلاءَ هامدةً ترتعُ فيها سكينةُ الموت؟ هل نريدُ للبنانِنا خطرَ الحياةِ في الوحدة، أم طمأنينةَ الموتِ في الانصهار؟ الحياةُ لا تسكنُ إلاّ في التّنوّع، وخارجَ التّنوّع موكبُ جنازةِ الحياة.
إن مفهومَ الانصهارِ يتعارضُ كلّيًاّ مع ما يُنشَرُ في أيّامنا الحاضرة من أبحاثٍ علميّة حول علم الوراثة، وأسرار طبيعتنا البشريّة المذهلة. في كتابه “ما هي الوراثة؟ مدخلٌ إلى علم الحياة”، يقول الباحثُ الفرنسي وعالـِمُ الأحياء والوراثة ألبير جكار Albert Jacquard إنَّ الأهلَ في أقصى درجات رغبتهم يتمنّون أن ينقلوا إلى أولادهم كُلَّ مخزونهم الجينيّ وحتّى ذاكرةَ العائلةِ بأكملها، غير أنَّ نواميسَ الطّبيعة تتدخّلُ لتردَعهم. فهي لا تسمحُ بالعبورِ إلى الأولاد إلاّ لقسم من هذا المخزون الجينيّ الآتي من الأب والأم، وأما القسمُ الآخر فيخضعُ إلى تراكيبَ تتحكَّمُ فيها الفوضى الكاملة. فتكونُ الحصيلةُ أنَّ المزيجَ الناتجَ من الوراثة والجينات الجديدةِ المتمرّدةِ على كلِّ تنظيم، يضعُنا أمام إنسانٍ جديد، لم تعرفِ البشريّةُ مثلَه من قبلُ ولن تعرفَ مثيلاً له من بعدُ. والقسماتُ الخارجيّةُ حيث نفرحُ بتلمّس بعضٍ من الشّبه مع أحد الأهل، لا تتعدّى كونَها وشاحًا سطحيًا يُخفي تحت طيّاته إنسانًا فريدًا من نوعه. وهذا الأمرُ ينطبقُ على جميع الكائنات الحيّة والجامدة من دون استثناء. فالوجودُ بأكمله خرج على قاعدة التّنوّع. أمام هذه الحقيقةِ الصّارخة، نتساءلُ بحقٍّ كيف انزلقَ الفكرُ البشريُّ إلى هذا الانحرافِ المفاهيميّ الخطيرِ والتّسويقِ لفكرةِ الانصهار.
أما الملفُّ الفلسطينيّ في عناصره المعقّدةِ والمتشابكة فقد استحوذ هو أيضا على قسمٍ كبير من اهتمامات إدمون رزق وتحليلاتِه ومتابعاتِه واقتراحاتِه وكتاباتِه. فالإجماعُ على قُدسيّة القضيّةِ الفلسطينيّة وأحقِّيَّتِها أمرٌ مفروغٌ منه ولا يُناقش. شعبٌ ظُلمَ وهُجِّرَ من أرضه وتشتّت. أين العدلُ وأين حقوقُ الانسانِ في ذلك؟ أمام هولِ هذه النكبة، كان الشعبُ اللُّبنانيُّ المسالمُ والمحدودُ الإمكاناتِ السّبّاقَ إلى الاستضافة والإيواء وتخفيفِ وطأةِ المأساةِ على الفلسطينيين. غير أن الأمرَ الذي لا نقوى على استيعابِه لماذا الفلسطينيُّ الضّحيّة، النازلُ ضيفًا على اللّبنانيّين، تحوّل إلى جلاّدٍ ومغتصبٍ ومحتلّ؟ منذ خمسةٍ وعشرينَ يومًا، أقام اللبنانيّون المنكوبون بويلات التاريخ ونوائبِه ذكرى الخمسينَ سنةً على اندلاع الحرب اللّبنانيّة الفلسطينيّة في الثالثَ عشرَ من نيسان 1975. هذه السّنواتُ المؤلمة، يضمُّها إدمون رزق إلى قهر أربعة قرون، تحت النير العثماني، وإلى عصور الغزوات والفتوحات. ويفنّدُ في مقالاته وخُطبِه ودراساته أسبابَ تعاظُمِ حنَقِ اللّبنانيّينَ وغضبِهم، مبيّنًا أن ما زاد من حذر اللُّبنانيّين هو “ما لمسوه من تحيُّز ظاهر ضدَّهم، بإرغامهم على الإذعان أمام الاستقواءِ الفلسطيني، ففي حينٍ كانت كلُّ الدّولِ العربيّةِ تُحكِمُ قبضتَها على مخيَّمات اللاّجئين، ولا تسمحُ لهم بأيّ تجاوز، كانت هذه الدولُ نفسُها تستمرئُ الممارساتِ الفلسطينيّةَ في لبنان، وتشجّعُها، وتـغذّيها، وتموّلُها.”
يقاربُ إدمون رزق بموضوعيّة صارمة كلَّ القضيّةِ الفلسطينيّةِ في حِقْباتها المتتالية بعيدًا من الشّعبويّة الخادعة ورنين الكلمات المجوّفة الّتي تعطِّلُ الطاقةَ العقليّة وتدفعُ بالمستمع إلى الانتحار الجميل. فهو يخلصُ إلى أنّ الكفاحَ المسلّحَ الفلسطينيَّ والعربيَّ لم يحقِّق أيَّ شيءٍ من الأهداف الّتي حُدَّدت له، لا بل راكمَ الخسائرَ بشكلٍ مفجع على نكبة 1948 ونكسة 1967. هل أعادوا النظرَ في هكذا استراتيجيّات فاشلة وقاموا برسم مخطّطاتٍ مختلفةٍ، عاقلةٍ وعمليّة، لإحقاقِ حقِّ فلسطين؟ ألم يقرأوا الشرعَ الإسلاميَّ الذي يُحرّمُ القيامَ بأيّ عملٍ حربيٍّ إذا لم يكن هناك من توازنٍ مؤكّدٍ في القوى، لا بل أرجحيةٌ تمكِّنُ من تحقيق النّصر؟ على أيِّ مسؤولٍ فلسطينيٍّ أو أيِّ مسؤولٍ عربيٍّ، فطنٍ وحكيمٍ ومتبصِّرٍ، أن يحميَ أولاً وآخرًا شعبَه، ويمنعَ عنه القتلَ والتشرُّدَ والإذلال، لا أن يُؤمِّنَ له الوصولَ الآمنَ إلى جنّة الشّهداء. يحضرُني هنا قولُ أينشتاين الشهير: “الجنونُ هو أن تفعلَ الشيءَ عينَه مرةً بعد أخرى وتتوقّعَ نتائجَ مختلفة”. في خُلاصة كلامِه عن القضيّة الفلسطينيّة، يقولُ إدمون رزق في كتابه “آراءٌ ودماء” ما حرفيّتُه: “عقيمةً كانت، ولا تزالُ، أساليبُ محاولةِ استردادِ فلسطين، فعسى أن تلوّنَها العقلانيّةُ العمليّة” (ص 87).
هذا غيضٌ تحليليٌّ لبعضِ المسائلِ الكبرى من فيضٍ فكريٍّ متشعِّبٍ وغنيٍّ ومُثرٍ من الأعمال الكاملة لإدمون رزق. وددتُ في هذه الأمسية تسليطَ الضوءِ على نواحٍ محدّدةٍ ومقتضبة من النّتاج الفكريّ الوافر لإدمون رزق. في هذه العملقة الثّقافيّة، يمثّلُ إدمون رزق اللبنانيَّ المتمرّدَ على نوائبِ الدّهر، والمنتفضَ على عبثيّات التّاريخ في هذا الشَّرقِ المعذِّبِ والمعذَّب، في هذا الشَّرق مَهبِطِ الوَحيِ الإلهيِّ ومكانِ هبوطِ القيمِ والحقوق. هو يعرفُ حقَّ المعرفة أن سيِّدَ الزَّمنِ والتَّاريخ ليس الانسانُ المتضعضعُ والمنحرفُ عنِ الصّواب، بَلِ اللهُ الكلمةُ الّذي هو فوق الزَّمن والتّاريخ. هو يدركُ بعمقٍ عظمةَ لبنانَ المذكورِ في الكتاب المقدَّس حوالي أربعٍ وسبعينَ مرّةً، رمزًا للحياة والخلود والفتون. كم كان إدمون رزق على سدادٍ في التفكير عندما استصرخَ حكّامَ لبنانَ قائلا: “أنا إنسانٌ عِملاق، فلِمَ تضغطون هامتي وجَناحيَّ لأبدوَ قزمًا …؟” (آراء ودماء، ص 79). ثم يناشدُ المسؤولينَ في بلد الأرز متوسِّلاً إليهم بالقول: “أُتركوا لبنانَ يثبُ إلى العصرِ الكونيّ، ولا تجمّدوهُ في الفراغ، لأنّكم لا تستطيعون مُواكبةَ الحياة” (المرجع ذاته).
أنا اللّيلةَ سعيدٌ جدًّا برؤية مغامرة إدمون رزق المعرفيّة الّتي أَقلعتْ من رِحاب مدرسة سيّدة مشموشة، تحطُّ رحالَها في حرمِ جامعة الرّوح القدس الكسليك، في مكتبتها العظيمة، مستودعِ ذاكرةِ لبنانَ الكبرى. فالرَّهبانيّةُ اللُّبنانيّةُ المارونيّة – ممثَّلةً بقدس الأب العام هادي محفوظ السامي الاحترام، الرئيسِ الأعلى للجامعة – المحافِظةُ على الشُّعلة الفكريّة والرّوحيّة الّتي انطلقت من جبال قورش في سوريا الثانية مع مار مارون، إلى جبال عنّايا مع مار شربل، تستمرِئُ حَضنَ مسيرتِكم المشرّفة في مطاردة الحقائق الهاربة، يا صاحبَ السعادةِ والمعالي الأستاذ إدمون رزق. إنَّ أرشيفَكم الغنيَّ والبالغَ الأهميّةِ في رفع اللِّثام عن حقائقَ وأحداثٍ ومعلوماتٍ لم يتسنَّ لأحدٍ أن يصلَ إليها، سيكونُ مادّةً دسِمةً لعشَّاق التّنقيب عن الدّوافع الدّفينة لما يطفو على سطح الأحداث اللُّبنانيّة وغيرِها. في المحصِّلة، لا يسعُني إلاَّ أن أسوقَ أحرَّ التَّهاني إلى رئيس الجامعة الأب الدكتور طلال الهاشم، وإلى مدير مكتبة الجامعة والرئيسِ الـمُنتَخبِ للجامعة الأب الدكتور جوزيف مكرزل على هذا الإنجاز الكبير. ألا أغدقَ اللهُ نعمَه على معاليه وأمدَّ بعمره، ليبقى نبراسًا في المعرفة المؤنسِنةِ والـمُعتِقة، ورمزًا للمفكِّر الحصيفِ والحكيمِ والبصيرِ والثّاقب. بِفَضلِ الانتظاراتِ الجَميلة التي تتّكئُ عليها كلُّ كلمةٍ خَطّها إدمون رزق أو تلفّظَ بها، سنحوِّلُ هزائِمَنا المتلاحِقَةَ في إقامة بلدٍ حرٍّ سيّدٍ، منفتحٍ ومتفاعل، إلى مَدارجِ إقلاعٍ لمحاولاتٍ أُخرى مُتَقاطِرة، حتّى ننتهيَ جبرًا إلى استيلادِ لبنانٍ جديدٍ، وطنِ الإنسان، عاشِقِ السّلامِ ومـُدمِنِ ثَقافَةِ الحَياة.
وشكرًا لإصغائكم !