المطران خيرالله : البطريرك الياس الحويك أراد لبنان وطنًا رسالة ودولةً مدنية يعيش فيها اللبنانيون مسيحيون ومسلمون ودروز ويهود في الحرية والكرامة واحترام التعددية

عظة المطران منير خيرالله
في قداس ذكرى تطويب القديسة رفقا وعيد الاستقلال – مسيرة الأخويات
دير مار يوسف جربتا، 22/11/2025
« توبوا، وأثمروا ثمرًا يدلّ على توبتكم » (لوقا 3/8)
في 22 تشرين الثاني 1985، تداعينا للمرة الأولى، بعد خمسة أيام على إعلان الراهبة رفقا طوباوية ولمناسبة عيد الاستقلال، مع الأخويات والكهنة وأبناء وبنات الأبرشية، إلى مسيرة صلاة وتوبة إلى دير مار يوسف جربتا.
وجئنا اليوم، بعد أربعين سنة، وتثبيتًا لهذا التقليد المقدس، نحتفل معًا بعيدين: عيد القداسة وعيد الاستقلال. وبين الإثنين قرابةٌ روحية ووطنية، إذ هما ثمرة تضحيات شعبٍ وكنيسةٍ وأفراد، اقتضيا مسيرة طويلة من الجهود اليومية والمستمرّة كي نحصل على نعمة القداسة وفرح الاستقلال.
نحتفل أولاً بعيد القداسة في هذا الدير المبارك الذي شيّدته القديسة رفقا مع أخواتها الراهبات سنة 1897 هنا في وادي جربتا ليكون محجًّا للصلاة والإشعاع الروحي. وقررت أن تمشي مسيرة القداسة على خطى أبينا القديس مارون في الروحانية النسكية التي تقوم على العيش في القرب من الله على قمم الجبال، كما فعل قبلها القديس شربل، أو في قعر الوديان كما فعل مئات النساك في وادي قنوبين، في الصلاة والتأمل بكلمة الله والتقشف والتجرد والعمل في الأرض. وطلبت أن تشارك يسوع في حمل الصليب؛ فقبلت منه الآلام لتكرّس ذاتها في سبيل التكفير عن خطاياها وخطايا كثيرة كانت ترتكب في عصرها، وبخاصة بين 1840 و1860 يوم كان الموارنة والمسيحيون يُذبحون في زمن العثمانيين.
فصارت القديسة رفقا شفيعة الألم والمتألمين ورسولة الرجاء لكنيستها وشعبها. أما العيد الثاني، عيد الاستقلال، استقلال لبنان الوطن والدولة، فهو أيضًا، كما مسيرة القداسة، احتاج إلى جهود وتضحيات كبيرة من شعبنا قدّمها على مرّ التاريخ، وبخاصة منذ بروز ملامح الكيان اللبناني مع الأمير فخر الدين في القرن السادس عشر، وحتى إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 بجهد البطريرك الياس الحويك، التي أرادها كبيرةً لا في جغرافيتها وأرضها، بل في دعوتها ورسالتها. أراد لبنان وطنًا رسالة ودولةً مدنية يعيش فيها اللبنانيون مسيحيون ومسلمون ودروز ويهود في الحرية والكرامة واحترام التعددية؛ دولةً تعطي الأولوية للانتماء الوطني والمساواة في المواطنة وتحترم تعددية الانتماءات الدينية والطائفية والحزبية والثقافية والحضارية. ومن 1920 إلى إعلان استقلال لبنان الجمهورية سنة 1943 مع البطريرك أنطوان عريضه ورئيس الجمهورية بشاره الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح.
.
ولكن سرعان ما اهتزّ هذا الاستقلال، وبخاصة مع فتنة 1958 ومع اندلاع الحرب، بل الحروب، سنة 1975، ثم مع تراكم الصراعات والأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية.
وها نحن اليوم نحتفل بالذكرى الثانية والثمانين على نيل الاستقلال، وبالذكرى الخمسين على بدء الحرب وانهيار الدولة.
ويحق لنا أن نتساءل: هل كنّا فعلاً جديرين بنيل هذا الاستقلال ؟ هل بنيناه على أسس تؤمّن له الثبات والديمومة ؟ أو هل سعينا إلى الاحتفاظ بالاستقلال الذي دفع آباؤنا وأجدادنا الأثمان الغالية لنيله وجعلوا من لبنان وطنًا رسالة في الحرية والديمقراطية والعيش معًا في احترام تعددياتهم، كما اعترف لنا بذلك معظم رؤساء العالم والباباوات وآخرهم البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادس عشر والبابا فرنسيس ؟
وفيما نختتم السنة اليوبيلية للرجاء، وننتظر بفرح ورجاء زيارة قداسة البابا لاوون الرابع عشر الذي يأتي، على خطى أسلافه، ليثبّتنا في إيماننا ورجائنا ورسالتنا المميزة، نرى أننا بُتنا في حاجة ماسّة إلى أشخاص، لا سيما رجال دولة مسؤولين وسياسيين ومدنيين عاملين في الحقل العام، يقبلون التضحية بمصالحهم الخاصة والعمل معًا في سبيل بناء الاستقلال الجديد في دولة القانون التي يتساوى فيها المواطنون في حقوقهم وواجباتهم.
وسيذكّرنا البابا لاوون الرابع عشر بما طلبه منا البابا القديس يوحنا بولس الثاني في إعلانه عن سينودس الأساقفة الخاص بلبنان، أي بتغيير الذهنيات والتوبة وتنقية الذاكرة، وبما قاله لنا البابا فرنسيس في إعلانه عن سينودس الأساقفة الخاص بالسينودالية، أي بالسير معًا في الإصغاء والحوار والتمييز؛ وكل ذلك بهدف الوصول إلى مصالحة وطنية وبناء السلام العادل والشامل والدائم.
وهذا يقتضي منا جميعًا، مسؤولين ومواطنين، أن نعمل معًا:
أولاً، على تقبّل الآخر المختلف واحترامه، لا على رفضه وإنكار حقّه.
ثانيًا، على إقامة الحوار المنفتح والصريح في الحقيقة والمحبة، لا على إجراء التفاهمات الخبيثة تحت الطاولة.
ثالثًا، على المغفرة والمصالحة، لا على التحريض على الكراهية والحقد والانتقام.
أيها الرب إلهنا، أبانا الرحيم، نبتهل إليك متضرعين أن تمنحنا، بنعمة ابنك يسوع المسيح ومحبة روحك القدوس، وبشفاعة العذراء مريم والقديسة رفقا، نعمة التواضع لنتوب ونهتدي إليك وبعضنا إلى بعض، ونعمة الجرأة على طلب الصفح ومنح المغفرة؛ فنسير معًا نحو مصالحة شاملة وسلام دائم في طريق القداسة ومسيرة الوطن المستقلّ. آمين.