“عندما يتحرّك المجتمع الدولي برؤية واضحة وعزمٍ مشترك، فإنّ ما قد يبدو أزمة يمكنه أن يتحوّل إلى فرصة لبناء مستقبل أكثر أخوّةً واستدامة، يتمكّن فيه كلّ إنسان من أن ينمو بكرامة” هذا ما قاله المونسينيور دانيال باتشو في مداخلته في إطار المؤتمر الوزاري السادس عشر لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)
في إطار المؤتمر الوزاري السادس عشر لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) الذي يعقد في جنيف، ألقى المونسنيور دانيال باتشو، الوكيل المساعد للشؤون المتعددة الأطراف في قسم العلاقات مع الدول والمنظمات الدولية بأمانة سرّ دولة حاضرة الفاتيكان، مداخلة قال فيها يسرّ الكرسي الرسولي أن يشارك في المؤتمر الوزاري السادس عشر للأونكتاد، الذي تكرّم باستضافته كلّ من حكومة سويسرا ومدينة جنيف. في ظلّ الأزمة الراهنة التي يواجهها النظام المتعدد الأطراف، من الضروري إيجاد جواب رجاء، يتّسم بالشجاعة الأخلاقية وبالقرار على سلوك طريق مختلف. وفي هذا السياق، يشكّل موضوع هذا المؤتمر: “صوغ المستقبل: دفع التحوّل الاقتصادي من أجل تنمية عادلة وشاملة ومستدامة”، تعبيرًا بليغًا عن هذه القناعة عينها. لذلك، يودّ الكرسي الرسولي أن يقدّم تأمّلًا موجزًا حول كيف يجسّد هذا الموضوع روح الرجاء.
تابع المونسينيور دانيال باتشو يقول إنَّ الكلمة الأولى اللافتة هي “المستقبل”. لقد اجتمع المجتمع الدولي في هذا المؤتمر بهدف تحقيق نتيجة ملموسة وطموحة تعبّر عن الثقة بما هو آتٍ. فالمستقبل ليس أمرًا يُنتظر فحسب، بل هو واقع يُبنى الآن، برؤية واضحة ومثابرة راسخة. أما الكلمة الثانية فهي “التحوّل”. يجب بذل كلّ جهد ممكن لتجاوز أوجه عدم المساواة العالمية التي تُحدث شقوقًا عميقة بين القارات والدول والمجتمعات. إنّ مثل هذه الفوارق تهدّد المستقبل، وتتطلّب عملًا حاسمًا تحرّكه العدالة ويقوّيه روح التضامن. وأخيرًا، الكلمة الثالثة هي “التنمية”. فعلى الرغم من القلق العام إزاء الاتجاه الذي يسلكه العالم، يبقى من الضروري الحفاظ على الرجاء والسعي الدؤوب إلى ازدهار الإنسان الحقيقي، وتنميةٍ لا تكون اقتصادية فحسب، بل متكاملة بكلّ معنى الكلمة. أي تنمية تضع الإنسان في مركزها، وتحترم كرامته التي منحه الله إياها، وتسعى إلى الخير العام من خلال دمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والروحية للرفاه الإنساني. وفي هذا المنظور، يقف عمل الأونكتاد، من خلال ركائزه الثلاث، كمنارة رجاء: رجاء بأنّ التضامن والمسؤولية يمكنهما أن يغيّرا المستقبل، وأنّ كلّ إنسان، ولا سيّما الأشدّ فقرًا، يمكنه أن يشارك في تنمية عادلة وشاملة وإنسانية بحق.
أضاف المونسنيور دانيال باتشو يقول في روح الرجاء هذا يودّ الكرسي الرسولي أن يلفت الانتباه إلى مجالات أساسية تتطلّب التزامنا المشترك من أجل تعزيز التنمية البشرية المتكاملة الأصيلة. فالتنمية لا يمكن اختزالها إلى أرقام ومؤشّرات فحسب، إذ تتعلّق بشكل خاص بالناس، ولاسيما بالذين يعيشون في الفقر والحاجة الماسّة. علينا أن نحافظ على كرامتهم، “ويجب أن تبقى الفاقة القصوى لجميع الذين تُنكر عليهم هذه الكرامة حِملًا دائمًا على ضمائرنا”. عندما تفقد التنمية رؤيتها للإنسان، هي تنحدر حتمًا إلى أزمة. والمجتمع الدولي يواجه حاليًا أزمة من هذا النوع: نموّ بلا عدالة، وتقدّم بلا شمول، وثروة بلا ازدهار حقيقي. لذلك، كما يحثّ البابا لاوُن الرابع عشر، “علينا أن نلتزم التزامًا أكبر بمعالجة الأسباب الهيكلية للفقر”. ومن أبرز جوانب التنمية في عصرنا الحاضر مسألة احترام الحياة، التي لا يمكن فصلها بأيّ شكل عن قضايا تنمية الشعوب”. إذ أنَّ الانفتاح على الحياة واحترام قداستها هما في صميم التنمية الحقيقية.
تابع المونسينيور دانيال باتشو يقول ومن الشروط الأساسية الأخرى للتنمية البشرية المتكاملة الحرية الدينية. فمع أنّ التطرّف الديني يمكنه أحيانًا أن يعيق ممارسة هذا الحق، فإنّ نشر اللامبالاة الدينية أو الإلحاد العملي عن قصد من قبل بعض الدول يخلق هو أيضًا عقبات أمام التنمية الإنسانية الحقيقية، لأنّ مثل هذه السياسات تحرم المجتمعات من موارد روحية وإنسانية حيوية. وكما قال البابا بندكتس السادس عشر: “إنّ الله هو الضامن لتنمية الإنسان الحقيقية، إذ إنه، وقد خلقه على صورته، يرسّخ أيضًا كرامته المتعالية، ويغذّي توقه الفطري إلى أن “يكون “أكثر”. وتمتدّ أزمة التنمية أيضًا إلى الهيكليات التي وُجدت لتعزيزها، بما في ذلك النظام المالي الدولي القائم، الذي يجد صعوبة كبيرة في مواجهة التحدّيات الراهنة. وترتبط صعوبات تحقيق التنمية المستدامة ارتباطًا وثيقًا بأزمة الديون. فعبء الدين يقيّد البلدان النامية في دوامة الفقر. وبالإضافة إلى المستويات المذهلة للديون، من غير المقبول أن تتجاوز مدفوعات الفوائد الإنفاق العام على القطاعات الحيوية: إذ يعيش اليوم نحو ٣٫٤ مليار شخص في دول تنفق على خدمة الدَين أكثر مما تنفق على الصحة أو التعليم. لقد أصبحت القروض، التي كان يُفترض أن تكون أدوات للنمو، عبئًا خانقًا يستنزف رجاء الأجيال القادمة.
أضاف المونسنيور دانيال باتشو يقول وثمة وجه آخر لهذه الأزمة هو الدَّين الإيكولوجي، الناتج عن اختلال التوازن التجاري الذي يدمّر البيئة، وعن الاستخدام غير المتكافئ للموارد الطبيعية من قبل بعض الدول على مدى فترات طويلة. لذلك، وفي هذه السنة اليوبيلية التي تحتفل بها الكنيسة الكاثوليكية، يدعو الكرسي الرسولي “الدول الأكثر غنىً […] إلى الاعتراف بخطورة قراراتها الماضية العديدة، واتخاذ قرارٍ بالعفو عن ديون البلدان التي لن تتمكّن أبدًا من سدادها. فهذه المسألة ليست مسألة سخاء، بل هي مسألة عدالة”. أما الذكاء الاصطناعي فيكشف عن جبهة جديدة من أزمات التنمية الحالية. فعلى الرغم من إمكاناته الكبيرة في تعزيز التنمية المستدامة، إلا أنه يتطلّب مسؤولية وتمييزًا وإدارةً أخلاقيةً وأُطرًا تنظيمية تتمحور حول الإنسان. ومن الضروري أن “يُستخدم بما لا ينتقص من كرامة الشخص البشري”، وألّا يُسمح للتلقائية أو المحاكاة بأن تحلّ محلّ الإنسان”.
وختم المونسنيور دانيال باتشو مداخلته بالقول في الختام، يبقى الكرسي الرسولي واثقًا من أنه عندما يتحرّك المجتمع الدولي برؤية واضحة وعزمٍ مشترك، فإنّ ما قد يبدو أزمة يمكنه أن يتحوّل إلى فرصة لبناء مستقبل أكثر أخوّةً واستدامة، يتمكّن فيه كلّ إنسان من أن ينمو بكرامة.
الكرسي الرسولي في مؤتمر الأونكتاد: التنمية الحقيقية تبدأ من كرام






