الكاردينال بارولين: تريزيا الطفل يسوع، *طريق الصِّغَر* في وجه الاكتفاء الذاتي للإنسان المعاصر

“إنّ رسالة القديسة تريزيا تتوجّه بنوع خاص إلى إنسان عصرنا، الذي يرفض، بصور شتى، الارتباط المتبادل الطبيعي بين البشر، ومع البيئة التي يعيش فيها، في سعيه ليكون “مثل الله”، مستجيبًا لتجربة آدم وحواء القديمة” هذا ما قاله أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان في عظته مترئسًا القداس الإلهي بمناسبة الذكرى المئوية لإعلان قداسة القديسة تريزيا الطفل يسوع
بمناسبة الذكرى المئوية لإعلان قداسة القديسة تريزيا الطفل يسوع ترأس أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين القداس الإلهي في كنيسة “Trinità dei Monti” في روما وللمناسبة ألقى الكاردينال بارولين عظة أعاد فيها إلى الأذهان والقلوب هذه القديسة بكل إشراقها السماوي، بشذا بساطتها، وعمق رسالتها، وحرارة حبّها. قال أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان إنَّ القديسة تريزيا الطفل يسوع، هي شفيعة فرنسا الثانية منذ عام ١٩٤٤ إلى جانب القديسة جان دارك، وملفانة للكنيسة منذ ١٩ تشرين الأول أكتوبر ١٩٩٧، تكشف لنا سرّ بلوغ سلام النفس وعيش الإنجيل: السير في “الطريق الصغيرة، القصيرة والمستقيمة جداً، طريق جديدة بالكامل”. وهذه “الطريق الصغيرة” تقوم على القيام بالأعمال اليومية البسيطة، بكل تواضع ومحبة وثقة وبساطة، وقبل كل شيء بتسليم كامل بين يدي الله. إنّها أن نكون كالأطفال في أحضان أمّهاتهم، كما يقول صاحب المزمور: “يا رب، لم يرتفع قلبي، ولا استعلت عيناي، ولم أسعَ وراء عظائم تفوقني. بل هدّأتُ وسكّنتُ نفسي، كطفل فُطم في حضن أمه، كنفسٍ مفطومةٍ هادئةٍ هكذا نفسي في داخلي.” لهذا السبب، تتحدّث القديسة تريزيا عن “الطفولة الروحية”. إنها ليست دعوة إلى سذاجة عاطفية أو طفولة غير ناضجة، بل رجوع جذري إلى روح الإنجيل: “إن لم تعودوا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماوات”، كما سمعنا اليوم في الإنجيل الذي قدّمته لنا الليتورجيا.
تابع الكاردينال بارولين يقول وتروي القديسة تريزيا كيف اكتشفت هذه “الطريق الصغيرة”. فإذ انطلقت من نداء أحد حكماء العهد القديم: “من كان صغيراً فليأتِ إليّ”، تساءلت: ما الذي سيفعله الله بمن يأتي إليه صغيرًا؟ فوجدت الجواب في نبوءة أشعيا، التي سمعناها اليوم أيضًا، والتي يُبشّر فيها النبي بقيّة الشعب اليهودي العائدين من السبي البابلي، والذين يعيشون اليأس والإحباط، أنّ الله سيعتني بشعبه كما تعتني الأم بوليدها: “تحملون على الأذرع، وتدلّلون على الركبتين. كما تعزّي الأم ابنها، هكذا أنا أعزّيكم.”
أضاف الكاردينال بارولين يقول في ضوء هذه الصورة، تؤكد القديسة تريزيا أنّ الله يهتم بكل واحد منا “كما لو كان الوحيد في الوجود”، وتضيف عبارتها الشهيرة: “كلّ شيء هو نعمة”، أي إنّ لا شيء يمكن أن يُكتسب بالاستحقاق، حتى محبة الله نفسها. وقد تبنّى الكاتب الفرنسي جورج برنانوس هذه العبارة فختم بها رائعته “يوميّات كاهن من الريف”. إنّ هذه النظرة للتاريخ تؤكّد ما أعلنه القديس بولس الرسول بيقين: “إِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأشياءِ تَعمَلُ لِخَيْرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ الله.”
تابع الكاردينال بارولين يقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إنّ رسالة القديسة تريزيا تتوجّه بنوع خاص إلى إنسان عصرنا، الذي يرفض، بصور شتى، الارتباط المتبادل الطبيعي بين البشر، ومع البيئة التي يعيش فيها، في سعيه ليكون “مثل الله”، مستجيبًا لتجربة آدم وحواء القديمة. ووسط هذا السعي المحموم إلى الاستقلالية والاكتفاء الذاتي والانفصال عن كلّ مرجعية، يجد الإنسان المعاصر نفسه عاجزًا عن تقديم أجوبة على ألغاز الوجود العميقة، تلك التي أقلقت قلب الإنسان في الماضي كما اليوم: ما هي طبيعة الإنسان؟ ما معنى حياتنا وغايتها؟ ما هو الخير وما هو الشر؟ ما أصل الألم وهدفه؟ كيف نبلغ السعادة الحقيقية؟ ما هو الموت؟ ما هو مصير الإنسان بعده؟ ما هو هذا السرّ العميق الذي يلفّ وجودنا، والذي منه خرجنا وإليه نعود؟
وختم أمين سرِّ دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين عظته بالقول هذه القديسة العظيمة، وقبل أن تغادر هذا العالم، وعدت أن تُنزل من السماء “أمطارًا من الورود” – أي فيضًا من النعم – بشفاعتها. وكانت على يقين بأنّ رسالتها هي أن “تفعل الخير على الأرض حتى نهاية العالم”. فيا أيها الإخوة الأحبّاء، لكي نجد أجوبة على هذه الأسئلة الوجودية التي تشغل قلب كل إنسان، إنني أستمطر على كل واحد منكم، وعلى عائلاتكم، وعلى أصدقائكم، وعلى فرنسا كلها، “أمطارًا من الورود!”