التقى غبطة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي قبل ظهر يوم الأربعاء 18 حزيران 2025، في الصرح البطريركي في بكركي، رؤساء تحرير، محررين واعلاميين من عدد من الوسائل الإعلامية اللبنانية بحضور وزير الإعلام الدكتور بول مرقص، رئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام المطران أنطوان نبيل العنداري، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الخوري عبدو بوكسم، نقيب الصحافة عوني الكعكي، ونقيب المحررين جوزيف القصيفي في اطار اليوم العالمي التاسع والخمسين لوسائل الإعلام ورسالة المثلث الرحمات قداسة البابا فرنسيس بالمناسبة، والتي حملت عنوان “شاركوا بلطف الرجاء الذي في قلوبكم”.
استهل اللقاء الذي تخلله حوار بين الحاضرين وغبطة البطريرك الراعي وقاده الإعلامي وليد عبود، بتلاوة قانون الإيمان للإعلاميين الذي اعده المركز الكاثوليكي للإعلام في لبنان والذي شدد فيه على “ضرورة ان تكون قضية الإعلام اللبناني هي لتثبيت اللبنانيين في ارضهم وتعزيز وحدتهم وصولا الى بناء جمهورية الاستقرار والرخاء والسعادة.”
رحب المطران العنداري بالحضور داعيا الى “تجنب الإساءات والتشهير في الإعلام واعتماد لغة احترام الآخر والمجتمع.”
ثم القى وزير الإعلام الدكتور بول مرقص كلمة جاء فيها:
“صاحبُ الغِبطة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي
أصحابُ السيادة والمعالي والسعادة، حضرةُ السادة الإعلاميين، أهلُ الكلمة… أمناءُ الكرامة
اسمحوا لي بدايةً أن أشكر المركز الكاثوليكي للإعلام على هذه الدعوة الكريمة، وأن أعبّر عن امتناني لوجودي في الصرح البطريركي، في حضرة “سيّدنا الراعي“.
في حضرةِ الرجاءِ، وفي رحابِ الكلمة التي كانت في البدء، نلتقي هذا الصباح، في مناسبةٍ تنفتحُ على بعدٍ ديني، وجودي، إنساني، لبناني، وطني… وعلى دعوةٍ إلى تأمّلٍ عميق:
ما هو الإعلامُ الذي نُريده للبنان؟ ما هي الرسالة؟ ما هو الرجاء؟
نحتفلُ باليومِ العالمي التاسعِ والخمسين لوسائلِ الإعلام، في ظلِ عنوانٍ نابعٍ من روحِ الإيمانِ المسيحي، ومؤطَّرٍ بنداءٍ كنسيّ بليغ: “الرجاءُ لا يُخيّب”.
وكيف يُخيّبُ الرجاء، وبكركي تاريخياً، جعلت منه فعلاً إيمانياً خلاصياً لا انتظاراً سلبياً، وحوّلتهُ من فضيلةٍ لاهوتية إلى خيارٍ وطني. على صلابتِها تأسّس لبنان، وبثباتِها أُعطِيَتْ مجدَهُ. نعم، مجدُ لبنان أُعطيَ لها…
وهذه، بالمناسبة، شهادة من وزير كاثوليكي ملكي، تُقال للتاريخ لا للمجاملة. فبعضُ الحقائق لا تُصنّف طائفياً أو مذهبياً. بكركي صخرةُ لبنان، كما بطرس صخرةُ الكنيسة. بطرس أوكِل إليه بناءُ الإيمان، وبكركي أوكِل إليها بناءُ لبنان، وبين الصخرتين، استمرّ الرجاءُ حياً لا يُهزم… على صخرتِها اتكأ لبنانُ حين ترنّح. كانت صوتَه في صمتِه، ودرعَه في حربِه.
وقفت على قِمّةِ السيادة. لم تُهادن محتلاً، ولم تُساوم على الكيان.
أعزائي، ما أصدقَ هذا الرجاء حين يتحوّلُ من مفهومٍ لاهوتي إلى موقفٍ وطني.
حين يدوّنُه غسان تويني في “النهار”، لا كإفتتاحيّةٍ، بلّ كقسم، فيصدحُ ديكُها كلَّ صباح إيذاناً بالفجر!
وما أبهى هذا الرجاء، حين يخطُّه طلال سلمان في “السفير”، لا كصوتٍ لهُ، بل لمن لا صوتَ لهم!
وما أعظمَ هذا الرجاء، حين يُصبح عهداً، كما فعل جبران تويني بقَسَمِه الشهير،
وسمير قصير بمقالِه الأخير، ومي شدياق بجرحِها الناطق.
هؤلاء الكبار لم يكتبوا لأنفسهم، بل للبنان… للقيم، للحرية، للعدالة.
كتبوا لأنهم آمنوا أنّ الكلمة تُنقذ وطناً. من هنا، من بيروت، عاصمةِ الكلمة، قال غسان تويني “لنذهب إلى الحربِ دفاعاً عن السلام”.
من هنا رفعَ شعارَه الخالد “لنُدافع عن لبنان بالكلمة لا بالسلاح”.
من هنا، من بيروت، رسمَ طلال سلمان السياسة بالحبر، وكتب:
“نكتب لنحيا… نكتب لأنّنا نحلُمُ بوطنٍ لا يخونُ فيه القلمُ القلب”.
لبنان لم يكن يوماً مجرّدَ نقطةٍ على خارطةِ العرب،
بل كان النقطة التي وُضعت على حروفِهم لتكتملَ لغتُهم.
هذا الوطنُ الصغيرُ في حجمه، الكبيرُ في أثرِه، من شُرُفاتِه خرجَ صوتُ الحرية، كجرسِ كنيسةٍ لا ينقطع. كنداءٍ حضاريّ صقلَ وجهَ الإعلام العربي.
غبطةُ البطريرك، الحضورُ الكريم،
في وطنٍ كلبنان، حيث الكلمةُ أحياناً تُنير، وأحياناً تُشعل، يصبح للإعلام دورٌ يُشبه رسالةَ الكنيسة.
فإذا كانت الكنيسةُ تبشّرُ بالرجاء، فالإعلامُ يبشّرُ بالحقيقة.
لأنّ الرجاءَ بلا حقيقةٍ وهم، والحقيقةُ بلا رجاءٍ قسوة.
نلتقي اليوم، ونحن في عهدٍ جديدٍ، يحملُ وعداً بمصالحةِ اللبناني مع ذاتِه، مع دولتِه، مع تاريخِه، مع حاضرِه، مع غدِه، مع مستقبلِه. عهدٌ يقودُه فخامة الرئيس جوزيف عون، بروحٍ إصلاحية، وبوصلة سياديّة، وإرادة فولاذيّة.. إرادة بإعادة بناء الدولة كقيمة ومعنى. ومن هذا الرجاء الجديد، نتطلّع إلى إعلامٍ مُتجدّد، يُشبه صلاةً بيضاء.
إعلامٌ يصنعُ الوعي، يُشاركُ في الشأن العام، ويرعى الهُوية الثقافيّة والروحيّة والوطنيّة للبنان.
أحبائي، في هذا العهدِ، لا مكانَ إلاّ لصحافةِ الرجاء. ولبنانُ الذي أنجبَ جبران خليل جبران ومارون عبّود وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وسعيد عقل وخليل مطران وبشارة الخوري ومي منسى… لا يليقُ به أن يُختطفَ صوتُه أو يُشوَّهَ قلمُه.
نريدُ إعلاماً يُشبه هذا اللبنان في أجملِ تجلياته، حين يكونُ عالياً كصنين، حراً كجزين، عميقاً كأنوبين، متجذّراً كالأرز، صادقاً كدمعةِ أمِ شهيد، وعادلًا كمنبرِ كنيسة.
دعونا نعيدُ الاعتبار إلى الكلمة، كما أرادها الكتاب المقدّس: “في البدء كانت الكلمة”.
باسم فخامة الرئيس وباسمي، أنحني أمام صمودِ الإعلام اللبناني.
أمام تعبِه. أمام إيمانِه بأنّ لبنان ليس قضيّةً خاسرة، بل وطنٌ يُقاومُ بالنور، ويشفى بالحقيقة، ويقومُ بالرجاءِ والصلاة.. “بصلاتك سيّدنا”.
ونحنُ في قلبِ هذا الرجاء، نرفعُ صلاتَنا أيضاً من أجلِ أن تتوقّفَ الحروبُ في منطقتِنا، أن يسكُتَ السلاح، أن يعلوً صوتُ الحياة. والرجاءُ، كما عنوان هذا العام، وكما قال بولس الرسول، “لا يُخيّب”. وشكراً.
بدوره أثنى غبطة البطريرك على “الكلمة اللاهوتية الغنية بمفهوم الرجاء،” للوزير مرقص مرحبا بالحضور والمشاركة وقال: “انها المرة الأولى التي نلتقي فيها سوية.
هذا اللقاء نوعه جديد. اود التحدث عن الرجاء المأخوذ من رسالة قداسة البابا لليوم الإعلامي العالمي من خلال الأفكار. الفكرة الأولى هي رسالة الإعلاميين والإعلاميات ان يكونوا ناقلي الرجاء. هذه هي رسالتهم لأنهم أصحاب التواصل ولكن بعض المرات لا يؤدي هذا التواصل الى الرجاء، وانما يقود الى الخوف واللاثقة والشك والإثارة والأذية وهذا ليس بإعلام وانما هو ضد طبيعة التواصل الذي يجب ان ينقل الرجاء والفرح والثقة، وهذا ما دفع المثلث الرحمة البابا فرنسيس الى طلب نزع سلاح الإعلام والتواصل وهو يعني بذلك ان التواصل سلاح يجب تطهيره من كل روح عدوانية. نعم هناك أنواع من التواصل هي أمضى من السلاح الحقيقي، يجب تطهيره من روح العدوانية لكي ننتمي الى مجتمع واحد.”
وتابع غبطته: “التواصل هو لأن نكون مجتمعا واحدا بالفكرة. ويأسف قداسة البابا لأننا لسنا مجتمعا واحدا بالتواصل. انه يلفت الى الإنتباه المبرمج من خلال الأنظمة الرقمية وهذا يشعرنا باننا لسنا في مجتمع واحد. نحن حجاج، وتواصل الدولة الأساسي معنا يجعلنا في رحلة لنكون رفاق درب وحجاج رجاء.”
وأضاف البطريرك الراعي:” ثلاث فضائل الهية تعطى لكل انسان، وهي الإيمان والرجاء والمحبة. الرجاء في الوسط لأنه الثبات في الإيمان. الرجاء لا يوجد من دون حب في قلب الإنسان. فالرجاء يمسك بالمحبة، ومن لا يحب لا رجاء لديه. يقول “شارل بيغي”ان الفضيلة الأحب على قلب الله هي الرجاء لانها الثبات في الإيمان والإنفتاح على الحب. هذا هو الرجاء الذي نتحدث عنه اليوم. انه حياة الناس ومن دونه لا احد يمكنه الإستمرار في العيش. انه مشروع قرب وحنان ورحمة ولطف وحوار وتطهير من الروح العدوانية، وعلينا ترجمته انسانيا. انه يشفي جراح الإنسانية فهناك رجاء الأمهات والرجال والشبيبة والأطفال انه شفاء لكل واحد منهم. انه يسمح لنا بالعيش بثبات واستقرار.”
وقال غبطته:” في رسالة بطرس الرسول” اكرموا قداسة الرب في قلوبكم وكونوا مستعدين لإعطاء جواب على الرجاء الذي فيكم وجاوبوا باللطف والإحترام، هناك ثلاث رسائل، أولها كرموا قداسة الرب في قلوبكم. فللرجاء وجه وهو وجه الله الذي ظهر بيسوع المسيح. لم يعد الرجاء فكرة فلسفية اجتماعية وانما اصبح لديه وجه انساني اسمه الله. المسيح هو الرجاء وهو يقول لنا انا معكم الى منتهى العالم، وهذا يعني انني لم اعد أخاف من أي شيء. انا مستقر ولست وحدي فالله معي. وضعت الرب عن يميني فلن اتزعزع.”
وتابع غبطته:” اما الفكرة الثانية فهي كونوا مستعدين لإعطاء جواب على الرجاء الذي فيكم. ليس المهم التحدث عن الله فقط. فالمسيحي لا يتحدث عن الله فقط وانما يعكس محبة الله، فكونوا مستعدين لإعطاء جواب على الرجاء الذي فيكم، أي فلنعكس محبة الله وليس التحدث عنه فقط، فتكون شهادة الرجاء.”
وقال غبطته:” اما الأمثولة الثالثة فهي إعطاء جواب لطيف ومحترم. فالتواصل بشكل عام ومسيحيا بشكل خاص يجب ان يكون منسوجا باللطف والحنان والمشاعر الإنسانية حتى نصبح رفاق درب. فنحن حجاج معا وهذا يوبيل السنة المقدسة. نحن حجاج الرجاء التي تسود بينهم الرحمة والإنسانية. وهكذا نخرج ىمن العداوات، وكما يقول قداسة البابا هناك بعض وسائل التواصل علينا نزع سلاحها. وأخيرا الرجاء هو ثقافة هدم الجسور وكسر الجدران المرئية وغير المرئية في عصرنا. حجاج الرجاء هم حجاج هدم الجدران الفاصلة بين الناس.”
وختم البطريرك الراعي:” ندعو اليوم لأن يجعلنا الرجاء نسير سوية نحو حياة افضل. وفي لبنان نحن أبناء الرجاء، وهو بدأ يعطي ثماره من خلال فخامة الرئيس ودولة الرئيس والوزراء. لا يجب القول دائما ان الأمور لا تسير كما يجب في لبنان، وانما علينا ان نغير نظرتنا للأمور وننظر بانسانية اكبر وثقة اكبر وان نقيم الأمور، فالثقة يجب ان تكون في قلب الإنسان بشكل دائم قبل أي شيء آخر.”
بعدها كانت جلسة حوار مغلقة بين البطريرك الراعي والإعلاميين الذين هنأوا غبطته بتعافيه، تمحورت حول عدد من المواضيع المحلية المتعلقة بالشأن الوطني والسياسي والإقتصادي والإجتماعي. وتمنى الإعلاميون في الختام ان يكون هذا اللقاء مؤسسا للقاءات أخرى يتم فيها البحث في المستجدات اللبنانية على جميع الأصعدة.
الراعي: لبنان ليس ذاهبا إلى الزوال وواقعه الدقيق يدعو إلى الحياد
