احتفل صاحب الغبطة البطريرك يوسف بالليترجيا الإلهية المقدسة في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون
حيث عاونه صاحب السيادة المتروبوليت نيقولاوس أنتيبا وقدس الأرشمندريت أنطون مصلح النائب البطريركي العام في دمشق وكهنة الرعية. تلى الليترجيا الطواف بالصليب المقدس.
وجاء في عظة صاحب الغبطة:
إكرام الصليب
الأحد الثالث من الصوم
مر 8: 34 – 9: 1
في منتصف أيّام الصوم الأربعين، في الأحد الثالث من زمن الصوم، ترفع الكنيسة الصليب الكريم الذي بسط يسوع يديه عليه وتدعونا إلى إكرامه. وهي إذ تفعل ذلك تريد أن تذكّرنا بشيء أساسيّ في الإيمان المسيحيّ وفي الحياة المسيحيّة، تريد أن تذكّرنا بأهمّية الصلب، صلب يسوع، وقد صار هذا الصلب حقيقة من حقائق الإيمان المسيحيّ الواردة في قانون الإيمان إذ نقول عن يسوع: “وصُلب عنّا على عهد بيلاطس البنطيّ”.
ففي بداية الخليقة، على ما ورد في الكتاب المقدّس، كان فردوس، كانت جنّة، فيها شجرة تدعى شجرة معرفة الخير والشرّ، حرّم اللّٰه أكلها على آدم وحوّاء، إلاّ أنّهما أكلا منها بالرغم من ذلك، فقضى اللّٰه عليهما بالموت. وزمن الصوم هو، في تعليم الكنيسة، زمن السعي إلى العودة إلى الفردوس، إلى الجنّة، أعني إلى الحياة مع لله تعالى، بالتوبة. والذي جعل هذه العودة متاحة وممكنة هو موت يسوع المسيح على الصليب. فالصليب صار هو شجرة الحياة الجديدة التي بها نحصل على الحياة. لذلك ترفعه الكنيسة في منتصف زمن الصوم داعية إيّانا إلى تكريمه.
أودّ أن ألبّي معكم دعوة الكنيسة فنتأمّل ولو قليلاً في بعض معاني الصليب الكريم المحيي التي تدفعنا إلى إكرامه.
٠١ – المصلوب لا الصليب
إنّ إكرام الصليب هو إكرام ليسوع المصلوب عليه. إن كنّا نحن نكرم الصليب فلأنّ يسوع المسيح صلب عليه ولأنّه اختاره أداة لفدائنا. إنّ إكرامنا للصليب يعود رأسًا إلى يسوع المسيح الذي صُلب عليه. ففي نظر الكنيسة ما من صليب من دون مصلوب. لذلك لا نرى في كنائسنا صليبًا من دون يسوع المصلوب عليه، إلاّ في زمن القيامة رمزًا وإشارة إلى يسوع المسيح الناهض من بين الأموات. وفي هذه الحال نضع شريطًا رمزًا لأكفان يسوع، دلالة على يسوع عينه.
٠٢- الصليب ومحبّة اللّه
نحن نكرم الصليب لأنّه يذكرنا بمحبّة اللّٰه لنا وصفحه عنّا، إذ الصليب هو علامة محبّة اللّٰه وغفرانه للناس. “فما من حبّ أعظم من أن يبذل المرء نفسه عن أحبّائه”، يقول يسوع. هكذا أحبّنا هو حتّى إنّه بذل نفسه من أجلنا موتًا على الصليب. إنّ هذه الحقيقة كانت محور تفكير بولس الرسول الذي قد يكون أحسّ بمحبّة يسوع له أكثر من غيره لأنّ يسوع أحبّه في حين كان هو شاول يضطهده ويقتل أتباعه. وقد قال عن ذلك، في ما قال: “إني أحيا في الإيمان بابن الله، الذي أحبّني وبذل نفسه عنّي” (غلا ٢٠ :٢).
إنّ محبّة يسوع لنا دفعته إلى مشاركتنا في ألمنا بتألّمه على الصليب. ما كانت محبّة يسوع لنا محبّة نظريّة كلاميّة، بل محبّة عمليّة فعليّة قادته إلى مشاركة الإنسان في أضعف ضعفه ألا وهو الألم. لا بل إنّ محبّة يسوع قادته إلى مشاركة الإنسان في موته، مخليًا ذاته، مفرغًا ذاته، كما يقول بولس، حتّى تقبّل الموت على الصليب. لذلك نحن نكرم الصليب.
٠٣ – الصليب عود الخلاص
نحن نكرم الصليب لأنّه يذكّرنا بالخلاص الذي أجراه يسوع لنا بموته عليه. إنّ يسوع المسيح قد قضى على الموت والألم والشرّ وخلّصنا منها بارتفاعه على الصليب. فما عادت السيطرة الأخيرة والغلبة النهائيّة لهذه بل يسوع. لو لم يمت يسوع على الصليب لما كان في وسعي أن أتحرّر من الموت والألم والخطيئة. يسوع هو حبّة الحنطة التي ماتت وأتت بثمر الخلاص. الصليب هو الدرب إلى القيامة. لذلك لا تكاد كنيستنا تذكر الصليب إلاّ وتذكر معه قيامة يسوع المصلوب عليه. ليس من فاصل بين الصلب والقيامة. وإن تكلّمت الكنيسة عن الصليب فعلى ضوء القيامة وخلفيّتها، وإذ تقيم في هذا الأحد ذكرى للصليب فلكي تذكّرنا بأنّ المرور بالصليب هو من مراحل العبور إلى القيامة. إنّ الكنيسة تنظر إلى صليب يوم الجمعة من صباح يوم القيامة. لا تنظر إلى يسوع المصلوب قبل القيامة بل بعدها. من أجل ذلك لا تتكلّم الكنيسة عن الصليب إلاّ كلام الفرح. فليس الصليب في المسيحيّة كما كان أو كما هو عند البعض سبب حزن بل مدعاة فرح فنخاطبه بقولنا “افرح أيّها الصليب…”.
٠٤- الصليب صانع الوحدة
نحن نكرم الصليب لأنّ المسيح بموته عليه قد أزال الجدار الذي يفصل بين الإنسان وأخيه داعيًا إيّانا إلى التلاقي والتحابّ. نحن نكرم الصليب لأنّه رمز المصالحة والسلام بين الناس، ولأنّه، في الوقت عينه، دعوة للناس إلى مصالحة بعضهم بعضًا وإلى مسالمة بعضهم بعضًا. نحن نكرم الصليب لأنّه صانع الوحدة البشريّة. يقول بولس لأهل أفسس إنّ المسيح “هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين (أي من كلّ الناس) واحدًا إذ نقض الحائط الحاجز بينهما أي العداوة… ليكوّن في نفسه من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا بإحلال السلام [بينهما] ويصالحمها مع اللّٰه كليهما في جسد واحد بالصليب الذي به قتل العداوة” (أف ١٤-١٨ :٢).
إنّ الصليب يعلّمنا التضحية في سبيل الآخرين، تلك التضحية التي هي أساس السلام. فكما ضحّى يسوع المسيح بنفسه على الصليب، كذلك نحن مدعوّون إلى أن نضحّي بعضنا من أجل بعض. وليس في المنظار المسيحيّ من سلام وما ينجم عنه من ازدهار ورفاهية وما إليهما ما لم نبادر إلى التضحية بعضُنا في سبيل بعض. وكم نحن في حاجة إلى مثل هذه التضحية في هذه الأيّام العصيبة التي نمرّ بها. إنّ المواطن الحقيقيّ تقاس مواطنيّته بمقدار ما يقدّم لوطنه وما يضحّي به من أجل وطنه، وبمقدار ما يكون في سلام واتّحاد مع أخيه المواطن، مفضّلاً خير الوطن على الخير الفرديّ لأنّ الوطن عندما يكون في خير فكلّنا نكون في خير. لنصلّ على هذه النيّة لأنّ الصلاة هي خير ما نعمله وقد وصّى بها السيّد المسيح تلاميذه بقوله لهم في ليلة آلامه “صلّوا لئلاّ تقعوا في التجربة”، وبقوله لهم أيضًا: “هوذا الشيطان أراد أن يغربلكم مثل الحنطة لكنّي قد صلّيت من أجلكم”.
هذا هو الصليب الذي نرفعه اليوم في منتصف زمن الصوم ونكرمه. إنّه تلك الحقيقة التي هي من أسس إيماننا، ترافقنا في حياتنا اليوميّة كخلفيّة وأرضيّة لا تفارقنا، نعبّر عنها بشتّى الطرق الحسّيّة، فنرفع الصليب على كنائسنا، ونعلّقه في بيوتنا، ونزيّن به صدورنا، ونرسمه على جباهنا، نرنّم له ونسجد له ونقبّله. هذا هو الصليب الذي قال عنه بولس إنّه شكّ للبعض وجنون للبعض الآخر، أمّا لنا نحن المخلَّصين به فهو قوّة اللّٰه وحكمة الله. فلنفرح به ولنكرّمه بلا انقطاع، فإنّه صليب ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح، صليبُ المحبّة اللامتناهية والخلاصِ الأبديّ والسلام الحقيقيّ. آمين.
البطريرك العبسي : الصليب يعلّمنا التضحية في سبيل الآخرين
