بين اليأس والتشبّث بما تبقّى من حياة كريمة وأمل في الغد، يقف اللبنانيون على مفترق طرق، فيما تلوح زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى وطنهم كوميض نور يوقظ في قلوبهم الرجاء، حيث اختار الحبر الأعظم لبنان كأولى محطاته الخارجية من الفاتيكان، مرورًا بتركيا.
هي الزيارة الرابعة لحبرٍ أعظم إلى وطن الأرز، بعد زيارة البابا بولس السادس غير الرسمية في العام 1964، وزيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1997 الذي قال عبارته الشهيرة «لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة»، والبابا بندكتوس السادس عشر عام 2012 الذي حمل معه روح الثبات وسط عواصف المنطقة.
في الواقع، لم تكن زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان حدثًا دينيًا فحسب، بل محطة مفصليّة في التاريخ الحديث للبنان. وحين يُقال «زيارة البابا إلى لبنان»، تتّجه الذاكرة تلقائيًا إلى ربيع 1997، إلى تلك اللحظة التي وطئ فيها يوحنا بولس الثاني أرضًا مُنهكة بالاحتلال السوري وبالخيبة، وعلى مدى يومين استقبله اللبنانيون كما لو أنهم يستقبلون خلاصًا جماعيًا.
في اليوم الأول من الزيارة، أُقيم في بكركي قداس خصّص للشباب اللبناني المسيحي، فيما شهد اليوم التالي القداس التاريخي على أرض مرفأ بيروت، الذي شارك فيه أكثر من 250 ألف شخص من مختلف الطوائف. وفي ظل الإحتلال السوري، حملت كلمات البابا دعوة مبطّنة إلى الحرية، ومهّدت لما عُرف لاحقًا بـ«نداء بكركي» عام 2000، ثم شرارة «ثورة الأرز» عام 2005. فكانت الزيارة روحية في ظاهرها، لكنها تضمّنت في جوهرها معنى سياديًا عميقًا وذلك المرفأ نفسه، الذي سيُصاب بعد أعوام بجراحٍ جديدة، وتحديدًا في الرابع من آب عام 2020، عاد اليوم في كلام البابا لاوون الرابع عشر، حين أكّد أن هدفه الرئيسي من الزيارة هو مواساة شعب تعرّض منذ انفجار مرفأ بيروت لضربة تلو الأخرى.
في أيلول 2012، زار البابا بندكتوس السادس عشر لبنان من 14 إلى 16 أيلول، على رغم المخاطر الأمنية الناجمة عن الحرب السورية. وخلال زيارته، وقّع الإرشاد الرسولي «الكنيسة في الشرق الأوسط»، الذي يتضمّن خارطة طريق للكنيسة في المنطقة، ويؤكّد على الحوار بين الأديان وتعزيز الوحدة المسيحية. واختار لبنان على غيره من دول الشرق الأوسط لأن العيش المشترك فيه يُعد ضمانة لمسيحيّي المنطقة، ما منح زيارته بعدًا رمزيًا وسياسيًا فريدًا.
أما اليوم، وبعد ثمانيةٍ وعشرين عامًا على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني، وثلاثة عشر عامًا على زيارة البابا بندكتوس السادس عشر، يصل البابا لاوون الرابع عشر إلى وطن لم تلتئم جراحه بل تعمّقت مع مرور السنين. فهل توقظ زيارته نبض الوطن من جديد كما يأمل معظم اللبنانيين؟
زيارة تحمل بُعدًا رعويًا ورسالة وطنية
في حديثه عن الزيارة المرتقبة، يتوقّف المونسنيور عبدو أبو كسم، مدير المركز الكاثوليكي للإعلام والمنسّق الإعلامي لزيارة البابا إلى لبنان، عند رمزيتها، ويشرح أنّ أهميتها تنبع من كونها أول زيارة رعويّة يقوم بها قداسة البابا لاوون الرابع عشر خارج الفاتيكان بعد انتخابه.
ويشير المونسنيور أبو كسم، في حديثه لـ«المسيرة»، إلى خلفيّات اختيار لبنان وتركيا ضمن الجولة نفسها، موضحًا أنّ لكلّ محطة رمزيّة مختلفة. فالزيارة إلى تركيا، كما يشرح، تأتي في إطار الإحتفال بمرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقيا عام 325، حين وُضع «قانون الإيمان» الذي يوحّد المسيحيين حول العالم، وتحمل بالتالي، بُعدًا مسكونيًا يهدف إلى تفعيل العمل المشترك بين الكنائس من أجل بلوغ الوحدة المسيحية، مضيفًا أنها زيارة رعوية لا رسمية.
أما عن لبنان، فيؤكّد المونسنيور أبو كسم أنّ المشهد مختلف تمامًا، إذ تحمل الزيارة طابعًا مزدوجًا يجمع بين الرسمي والروحي. فهي من جهة زيارة دولة تأتي بدعوة رسمية من رئاسة الجمهورية، ومن جهة أخرى زيارة رعوية. ويكشف أن استقبال قداسته سيكون على مستويين متكاملين: إستقبال رسمي على صعيد الدولة، وآخر كنسي من خلال بكركي وسائر المرجعيات الروحية.
ويلفت المونسنيور إلى أنّ البابا لاوون الرابع عشر حرص على تحقيق رغبة سلفه الراحل البابا فرنسيس في زيارة لبنان، والتي حالت الظروف آنذاك دون إتمامها. ويضيف أنّه خلال مشاركة رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون في قدّاس تنصيب الحبر الأعظم، وجّه إليه دعوة رسمية لزيارة لبنان، مشيرّا الى أن البابا أعلن أيضًا في إحدى مقابلاته الإعلامية أنه يريد الذهاب إلى لبنان.
وأبعد من ذلك، يرى أبو كسم في الزيارة إستكمالًا لمسيرة الفاتيكان الطويلة مع لبنان ومسيحيي الشرق، مؤكدًا أنّ لبنان يشكّل في وجدان الكرسي الرسولي «بلد الرسالة»، كما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني. لذلك تندرج زيارة الحبر الأعظم اليوم، كما يوضح، ضمن سياق الدعم المستمر الذي يقدّمه الباباوات للبنان وكنيسته، في إيمان راسخ بأنّ الحفاظ على لبنان هو حفاظ على التنوّع في الشرق وعلى روح العيش المشترك التي تميّزه. حيث أن لبنان جزء لا يتجزأ من الشرق، وكل ما يصيب المنطقة يطالنا نحن أيضًا.
زيارة مفصلية ورسالة أمل
وعن تأثير الزيارة المرتقبة، يرى أبو كسم أنها «مفصلية وتأتي في وقت مفصلي»، إذ يأتي الحبر الأعظم والمنطقة كلها تمرّ بمرحلة دقيقة، ما يمنح زيارته بعدًا يتجاوز الإطار الكنسي لتشمل البعد الوطني والإنساني الأوسع ولتكون رسالة خلاص ورجاء.
ويقول: «نأمل أن يحمل البابا معه بركة تساهم في إنقاذ لبنان. لا أريد القول أعجوبة أو معجزة، لكني أؤمن أنها ستحمل نفحة روحية تعيد الأمل وتدفع اللبنانيين نحو الوحدة». فهذه الزيارة، كما يصفها، تعطي قوة دفع حقيقية في زمن التشتّت، ودعوة لكل اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، إلى أن يكونوا يداً واحدة في استقبال زائر يحمل رسالة سلام.
وإذ يشير إلى أن التحضيرات جارية على قدم وساق، لضمان أن تكون الزيارة لائقة بلبنان وبموقعه في قلب الشرق، يتابع أبو كسم مؤكّدًا أنّ المسؤولية تقع على عاتق الجميع لإنجاح الزيارة، فيقول: إنها مسؤوليتنا جميعًا، وعلينا أن نمنح هذه الزيارة دفعًا حقيقيًا من خلال المشاركة في كل الإحتفالات والإستقبالات والقداديس التي ستُقام. وعلى رغم أنّها ستجري في موسم الشتاء والبرد، يجب أن نتخطّى هذه العوامل كما فعلنا في زيارات البابا يوحنا بولس الثاني والبابا بندكتوس السادس عشر. نحن مدعوون لأن نكون عائلة واحدة، مسيحيين ومسلمين، نستقبل الزائر الكبير الذي يحمل معه السلام.
ويُعبّر أبو كسم عن ثقته بأنّ اللبنانيين المسلمين، سنةً وشيعة، سيشاركون في هذه المناسبة بحماسة قد تفوق حماسة المسيحيين أنفسهم، مشيرًا إلى أنّ هذا ما حدث في الزيارات السابقة، وهو ما يتوقّع أن يتكرّر اليوم، لأن الهدف واحد: المساهمة في إنقاذ لبنان. ويضيف: هل يُعقل أن تكون هذه الزيارة مخصّصة لفئة دون أخرى؟ بالتأكيد لا.
ثلاثة ملايين مسيحي… رسالة عالمية
وردًا على سؤال حول المقارنات التي يطرحها كثيرون بين زيارة البابا لاوون الرابع عشر المرتقبة وزيارة يوحنا بولس الثاني التاريخية عام 1997، التي شكّلت آنذاك دفعًا مسيحيًا ووطنيًا، يرد أبو كسم بحزم: هذه الزيارة تجعلنا نتمسّك أكثر ونتحمّل مسؤولية أكبر في ثباتنا بهذا الشرق. فنحن في لبنان قرابة ثلاثة ملايين مسيحي، فيما يوجد اليوم مليار ونصف المليار كاثوليكي حول العالم. وقداسة البابا، الذي يمثّل هؤلاء جميعًا، اختار أن تكون أولى زياراته إلى بلد لا يتجاوز عدد مسيحييه الثلاثة ملايين، وهذا بحدّ ذاته رسالة كبيرة.
ويضيف: علينا أن نحافظ على وجودنا ورسالتنا المسيحية، فهذه مسؤولية عظيمة. وبعد هذه الزيارة، لا يجب أن نسمح لليأس أو الإحباط أو الخوف بأن يتسلّل إلينا. لنا دور محوري في هذا الشرق، أن نكون شركاء في مسيرته، ورسلًا للسلام فيه.
فالمنطقة تدخل مرحلة دقيقة، وربما تتّجه نحو سلام، وعلينا نحن أن نكون من أعمدة هذا السلام.
ودعا المسيحيين الى أن يتذكّروا: أنّنا كالخميرة في العجين، قليلة العدد لكنها تخمّر العجين كله. وكحبة الخردل، صغيرة في بدايتها، لكنها ما إن تنمو حتى تصبح شجرة من أعظم الأشجار. نحن كذلك، كحبة القمح التي تُدفن في الأرض لتُثمر سنابل كثيرة. حبة واحدة قد تُنبت مئات الحبّات.
ويختم قائلًا إن: قداسة البابا يأتي اليوم ليؤكّد على هذا الدور المحوري للمسيحيين في الشرق، وفي لبنان تحديدًا، وعلى دعوتنا لأن نكون رسل سلام ومحبة في هذا الجزء من العالم، مضيفًا: لكل زيارة بابوية عنوان ورسالة، يشكّلان خارطة دعوتنا لأن نكون رسل سلام ومحبة في هذا الجزء من العالم»، مضيفًا: لكل زيارة بابوية عنوان ورسالة، يشكّلان خارطة طريق للزيارة، ويحدّدان توجهاتها وأهدافها.
أبعاد الزيارة
من جهة أخرى، يشير الأب هاني طوق إلى أن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان تحمل بعدًا معنويًا، فبصفته رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، يمثّل البابا أكثر من مليار وستمئة مليون مؤمن، ما يمنح الزيارة وزنًا روحيًا هائلًا على الصعيد الداخلي والخارجي. ويضيف طوق لـ«المسيرة» أن الزيارة تأتي أيضًا دعمًا لدولة يترأسها الرئيس المسيحي الوحيد في المنطقة. ويرى أن البعد الثاني للزيارة هو سياسي ودولي، فكون البابا رئيس دولة، يمنح لبنان شرعية واضحة ويؤكّد وجوده كدولة فعلية على الساحة العالمية، لا ككيان مصطنع، لا سيّما بعد كل التحديّات والأزمات الداخلية والإقليمية التي مرّ بها.
ويستطرد طوق متحدّثًا عن أهمية الزيارة إعلاميًا، مشيرًا إلى أن مرافقة أكثر من 200 إلى 300 وسيلة إعلامية عالمية للبابا يمنح لبنان حضورًا إعلاميًا وسياسيًا متجددًا ويعيده إلى الواجهة الدولية، كما يضع قضاياه ومستقبله في قلب الإهتمام العالمي.
كذلك، تؤكّد هذه الزيارة، على حدّ قول الأب طوق، على لبنان كوطن تعدّدي قادر على أن يكون ساحة للحوار في العالم العربي، ومنطلقًا لأسس السلام القائمة على تفاهمات عميقة بين مختلف شعوب الشرق الأوسط، بعيدًا من منطق توازن الرعب.
ثالثًا، يشدّد طوق على البعد الرمزي والرسالة التي تحملها زيارة البابا للشرق ككّل، للقول إن هذه المنطقة ليست محصورة في العالم الإسلامي فقط، بل تضمّ مسيحيين نشطين وفاعلين، كما يظهر من خلال الإستقبالات والقداسات ولقاءات الشبيبة والإجتماعات بين الأديان التي تُحضّر حاليًا، ما يعكس التعددّية اللبنانية ويثبّت أن الشرق قادر على التعايش والعمل من أجل السلام، في مواجهة النظرة الغربية التي غالبًا ما تصوّر المنطقة على أنها مسرح صراعات مستمرّ ومظلم.
ويضيف طوق أن زيارات البابا السابقة مثل توقيع وثيقة السلام مع المسلمين في أبوظبي كانت موجّهة للعالم الإسلامي، وزيارته للسيستاني في العراق أعطت شرعية للمرجعية الشيعية.
أهميّة الفاتيكان
بناءً على ما تقدّم، يؤكّد الأب هاني طوق أن الفاتيكان ليس مجرّد مقرّ ديني صغير، بل هو قوة دبلوماسية عالمية وقيادة روحية لأكثر من مليار وستمئة مليون مؤمن في 196 دولة حول العالم، ويمتلك تأثيرًا كبيرًا على الصعيد الدولي، وفي الوقت نفسه دولة لها تمثيل دبلوماسي لدى مختلف الدول، ما يمكّنها من الجمع بين البعدين الديني والدنيوي وتحقيق نوع من التوازن بينهما دون أن يغلب الطابع الديني على الدنيوي أو العكس.
ويضيف أن البابا، في كل ظهور له، يجسّد دور رجل سلام، وفي الوقت نفسه معلّم يقود الكنيسة. أما اختيار البابا لإسم «لاوون الرابع عشر»، فيؤكّد طوق، بأنه ليس صدفة، بل يعكس تفكيرًا لاهوتيًا وفلسفيًا عميقًا للكنيسة.
رمزية المرفأ
يشدّد الأب هاني طوق على أن كلام البابا لاوون الرابع عشر عن مرفأ بيروت يحمل رسالة مؤسساتية واضحة، تتعلّق بتحقيق العدالة وتعزيز عمل المؤسّسات في لبنان. ويضيف أن هذا الموقع الرمزي، ليس فقط شاهدًا على مأساة إنفجار أودى بحياة المئات، بل يعكس أيضًا الحاجة الملحّة لاستعادة ثقة الناس بالمؤسسات وضمان أن تتحمّل مسؤولياتها تجاه كل المواطنين، بغض النظر عن الطائفة أو الانتماء. بالتالي، تأتي زيارة البابا لتذكّر بأن المؤسّسات القوية والمتوازنة هي أساس أي دولة قادرة على الصمود والتقدم.
ختامًا، وقبل قداس إعلان الطوباوي المطران أغناطيوس مالويان، الذي خدم في لبنان لعقود، استقبل البابا لاوون الرابع عشر في الفاتيكان الرئيس جوزاف عون والسيدة الأولى نعمت عون، مؤكدًا أن زيارته المرتقبة إلى لبنان يرغب أن تكون زيارة سلام ورجاء، فيما أشار الرئيس إلى أن لبنان بكافة أبنائه يترقّب هذه الزيارة بفارغ الصبر، وأن كلّ الترتيبات أُخذت لضمان نجاحها.






