“لا تسمحوا للخوارزمية أن تكتب قصتكم! كونوا أنتم المؤلفين: استخدموا التكنولوجيا بحكمة، ولكن لا تسمحوا للتكنولوجيا أن تستخدمكم… كونوا أنبياء في العالم الرقمي!” هذا ما قاله قداسة البابا لاوُن الرابع عشر في كلمته إلى الطلاب المشاركين في يوبيل عالم التربية والتعليم
التقى قداسة البابا لاوُن الرابع عشر صباح يوم الخميس في قاعة بولس السادس بالفاتيكان الطلاب المشاركين في يوبيل عالم التربية والتعليم وللمناسبة وجّه الأب الأقدس كلمة رحَّب بها بضيوفه وقال يا لها من فرحة أن ألتقي بكم! لقد انتظرت هذه اللحظة بشوق عظيم: إنَّ صحبتكم في الواقع تُعيد إلى ذاكرتي السنوات التي كنت أُدرّس فيها الرياضيات لشباب مفعمين بالحيوية مثلكم. أشكركم على تلبية الدعوة للحضور إلى هنا اليوم، لكي نتبادل الأفكار والآمال التي أُسلمها، من خلالكم، إلى أصدقائنا المنتشرين في جميع أنحاء العالم.
تابع الأب الأقدس يقول أود أن أبدأ بتذكُّر بيير جورجيو فراساتي، طالب إيطالي تم إعلانه قديساً خلال سنة اليوبيل هذه. بفضل روحه المتّقدة حباً لله وللقريب، صاغ هذا القديس الشاب عبارتين كان يكررهما غالباً كأنهما شعار له: “الحياة بلا إيمان ليست حياة، بل مجرد عيش هزيل” والثانية “نحو العُلى”. إنهما عبارتان صادقتان جداً ومُشجعتان. لذلك، أقول لكم أيضاً: تحلّوا بالشجاعة لتعيشوا الحياة بملئها. لا تكتفوا بالمظاهر أو بالصيحات العابرة: فالحياة التي تقوم على ما يزول لا تُرضينا أبداً. بل لِيَقُل كل واحد منكم في قلبه: “أحلم بالمزيد يا رب، أرغب في المزيد: أنت ألهمني!”. هذه الرغبة هي قوّتكم وتُعبّر بصدق عن التزام الشباب الذين يخططون لمجتمع أفضل، ويرفضون أن يبقوا مجرد متفرجين فيه. لذا، أشجعكم على السعي المستمر “نحو العُلى”، وعلى إضاءة منارة الرجاء في الساعات الحالكة من التاريخ. كم سيكون رائعاً لو عُرفت أجيالكم يوماً ما بـ “جيل الإضافة”، وتذكَّرها الناس بفضل القيمة الزائدة التي ستُقدّمونها للكنيسة والعالم.
أضاف الحبر الأعظم يقول أيها الشباب الأعزاء، لا يمكن لهذا أن يبقى مجرد حلم لشخص واحد: فلنتّحد إذاً لتحقيقه، ولنشهد معاً لفرح الإيمان بيسوع المسيح. كيف يمكننا أن ننجح في ذلك؟ الإجابة جوهرية: عبر التربية، التي هي إحدى أجمل وأقوى الأدوات لتغيير العالم. لقد أطلق البابا المحبوب فرنسيس، لخمس سنوات خلت، المشروع العظيم لـ “الميثاق التربوي العالمي”، أي تحالفاً لجميع العاملين في مجال التربية والثقافة، بأدوارهم المختلفة، لإشراك الأجيال الشابة في أخوّة عالمية. فأنتم في الواقع لستم فقط مُتلقّين للتعليم، بل أنتم رواده. لذلك أطلب منكم اليوم أن تتحالفوا لفتح موسم تربوي جديد، نصبح فيه جميعاً – شباباً وكباراً – شهوداً ذوي مصداقية للحق والسلام. لهذا أقول لكم: أنتم مدعوون لكي تكونوا ناطقين بالحق وصانعي سلام، أصحاب كلمة وبناة سلام. أشركوا أقرانكم في البحث عن الحقيقة وفي تعزيز السلام، وعبِّروا عن هذين الشغفين بحياتكم، وبكلماتكم وأفعالكم اليومية.
تابع الأب الأقدس يقول في هذا الصدد، أُضيفُ إلى مثال القديس بيير جورجيو فراساتي فكرة للقديس جون هنري نيومان، وهو عالِم قديس سيُعلن قريباً كـ “ملفان للكنيسة”. لقد كان يقول إنّ المعرفة تتضاعف عندما تتم مشاركتها، وإن شرارة الحقيقة تشتعل في حوار العقول. وهكذا يولد السلام الحقيقي عندما تتّحد حيوات عديدة، كالنجوم، وتُشكل تصميماً. ومعاً يمكننا أن نُشكّل كوكبات تربوية، تُوجّه المسار المستقبلي. كأستاذ سابق للرياضيات والفيزياء، اسمحوا لي أن أجري معكم بعض العمليات الحسابية. هل تعرفون كم عدد النجوم في الكون المُرصَد؟ إنه رقم مُذهل ورائع: سكستيليون نجمة – أي ١ متبوعاً بـ ٢١ صفراً! لو قسّمناها على ٨ مليارات نسمة من سكان الأرض، سيحصل كل إنسان على مئات المليارات من النجوم. بالعين المجردة، وفي الليالي الصافية، يمكننا أن نرى حوالي خمسة آلاف نجمة. حتى لو كانت النجوم بمليارات المليارات، فإننا لا نرى إلا الكوكبات الأقرب: وهذه تُشير لنا إلى اتجاه، كما يحدث عند الإبحار في البحر. لطالما وجد المسافرون طريقهم في النجوم. كان البحارة يتّبعون النجم القطبي؛ وعبر البولينيزيون المحيط من خلال حفظ خرائط النجوم. وبحسب مزارعي الأنديز، الذين التقيت بهم عندما كنت مُرسلاً في بيرو، السماء هي كتاب مفتوح يُحدد مواسم البراعم، والجز، ودورات الحياة. حتى المجوس تبعوا نجماً لكي يصلوا إلى بيت لحم ويسجدوا للطفل يسوع.
مثلهم، أضاف الحبر الأعظم يقول، لديكم أنتم أيضاً نجوم إرشاد: الوالدون، المعلمون، الكهنة، والأصدقاء الصالحين، إنهم بوصلات تمنعكم من أن تضيعوا في أحداث الحياة السعيدة والحزينة. ومثلهم، أنتم مدعوون لكي تصبحوا بدوركم شهوداً مُنيرين لمن هم بقربكم. ولكن، كما قلت، النجم وحده يبقى نقطة معزولة. أما عندما يتّحد مع النجوم الأخرى، فهو يُشكّل كوكبة، مثل الصليب الجنوبي. هكذا أنتم: كل واحد منكم هو نجم، وجميعكم مدعوون لتوجيه المستقبل. إنَّ التعليم يوحّد الأشخاص في جماعات حية ويُنظّم الأفكار في كوكبات ذات معنى. وكما يكتب النبي دانيال: “ويضيء العقلاء كضياء الجلد، والذين جَعلوا كثيرًا من الناس أبرارًا كالكواكب أبد الدهور”. يا له من أمر رائع: نحن نجوم، نعم، لأننا شرارات من الله. والتعليم يعني رعاية هذه الموهبة.
تابع الأب الأقدس يقول إنَّ التعليم في الواقع، يُعلّمنا أن ننظُر إلى الأعلى، دائماً إلى الأعلى. عندما وجّه غاليليو غاليلي منظاره نحو السماء، اكتشف عوالم جديدة: أقمار المشتري، جبال القمر. وهكذا هو التعليم: منظار يسمح لكم بالنظر إلى ما هو أبعد، واكتشاف ما لا يمكنكم رؤيته بمفردكم. لذا، لا تتوقفوا عند النظر إلى الهاتف الذكي وشذرات صوره السريعة: انظروا إلى السماء، انظروا نحو العُلى. أيها الشباب الأعزاء، أنتم أنفسكم قد اقترحتم أول التحديات الجديدة التي تُلزمنا في ميثاقنا التربوي العالمي، وعبَّرتم عن رغبة قوية وواضحة، لقد قلتم: “ساعدونا في التربية على الحياة الداخليّة”. لقد أثّر فيّ هذا الطلب. لا يكفي أن تكون لدينا معرفة عظيمة، إذا لم نكن نعرف من نحن وما هو معنى الحياة. فبدون صمت وبدون إصغاء، وبدون صلاة، حتى النجوم تنطفئ. يمكننا أن نعرف الكثير عن العالم ونجهل قلبنا: لابد أنكم مررتم أنتم أيضاً بهذا الشعور بالفراغ والقلق الذي لا يترك الإنسان بسلام. وفي الحالات الأكثر خطورة، نشهد حالات من الضيق، والعنف، والتنمّر، والتسلّط، وحتى شباباً يعزلون أنفسهم ولا يريدون التواصل مع الآخرين بعد الآن. أعتقد أن وراء هذه المعاناة يكمن أيضاً الفراغ الذي حفره مجتمع غير قادر على تربية البعد الروحي للإنسان، وليس فقط البعد التقني والاجتماعي والأخلاقي.
أضاف الحبر الأعظم يقول في شبابه، كان القديس أوغسطينوس فتى لامعاً، ولكنه كان غير راضٍ على الإطلاق، كما نقرأ في سيرته الذاتية، الاعترافات. لقد كان يبحث في كل مكان، بين المهنة والملذات، وارتكب جميع أنواع الأخطاء، لكنه لم يجد لا الحقيقة ولا السلام. إلى أن اكتشف الله في قلبه، فكتب عبارة عميقة جداً تنطبق علينا جميعاً: “قلبي قَلِق حتى يرتاح فيك”. إذن، هذا هو معنى التربية على الحياة الداخليّة: أن نصغي إلى قلقنا، لا أن نهرب منه أو نُخْفِيه بما لا يُشبِع. إن رغبتنا في اللانهاية هي البوصلة التي تقول لنا: “لا تكتفِ، أنت قد خُلِقتَ لشيء أعظم”، “لا تعِشْ عيشاً هزيلاً، بل عِشْ الحياة بملئها”. أما التحدي التربوي الجديد الثاني فهو التزام يلمسنا كل يوم وأنتم أساتذته: التربية على العالم الرقمي. أنتم تعيشون فيه، وهذا ليس أمراً سيئاً: فهناك فرص هائلة للدراسة والتواصل. ولكن، لا تسمحوا للخوارزمية أن تكتب قصتكم! كونوا أنتم المؤلفين: استخدموا التكنولوجيا بحكمة، ولكن لا تسمحوا للتكنولوجيا أن تستخدمكم.
كذلك تابع الأب الأقدس يقول يشكّل الذكاء الاصطناعي أيضاً حداثة كبيرة – إحدى الأشياء الجديدة “rerum novarum” – في عصرنا: لكن لا يكفي أن نكون “أذكياء” في الواقع الافتراضي، بل يجب أن نكون بشراً مع الآخرين، ونعزِّز ذكاءً عاطفياً، وروحياً، واجتماعياً، وبيئياً. لذا أقول لكم: ربوا أنفسكم على أنسنة العالم الرقمي، وبنائه كفسحة أخوّة وإبداع، وليس كقفص تنعزلون فيه، وليس كإدمان أو هروب. فبدلاً من أن تكونوا سياحاً في الشبكة، كونوا أنبياء في العالم الرقمي! وفي هذا الصدد، لدينا مثال معاصر جداً للقداسة: القديس كارلو أكوتيس. فتى لم يجعل من نفسه عبداً للشبكة، بل استخدمها بمهارة من أجل الخير. لقد جمع القديس كارلو بين إيمانه الجميل وشغفه بالمعلوماتية، فأنشأ موقعاً عن المعجزات الإفخارستية، وجعل من الإنترنت بالتالي أداة للبشارة. تُعلّمنا مبادرته أن العالم الرقمي يكون تربوياً عندما لا يحبسنا في ذواتنا، بل يفتحنا على الآخرين: عندما لا يضعك في المحور، بل يركزك على الله وعلى الآخرين.
أضاف الحبر الأعظم يقول أيها الأحباء، نصل أخيراً إلى التحدي الكبير الجديد الثالث الذي أود أن أوكله إليكم اليوم ويقع في صميم الميثاق التربوي العالمي الجديد: التربية على السلام. ترون بوضوح كيف أن مستقبلنا مُهدد بالحرب والكراهية اللذين يُفرّقان الشعوب. هل يمكن تغيير هذا المستقبل؟ بالتأكيد! كيف؟ بالتربية على سلام مجرَّد من السلاح ويجرِّد من السلاح. في الواقع، لا يكفي إسكات الأسلحة: بل يجب تجريد القلوب من السلاح، بالتخلي عن كل عنف وابتذال. وبهذه الطريقة، تخلق التربية المجرّدة من السلاح والتي تجرِّد من السلاح مساواة ونمواً للجميع، مع الاعتراف بالكرامة المتساوية لكل فتى وفتاة، بدون تقسيم الشباب أبداً بين قلة محظوظة لديها إمكانية الوصول إلى مدارس باهظة الثمن والكثيرين الذين لا يحصلون على التعليم. وبثقة كبيرة بكم، أدعوكم لكي تكونوا صانعي سلام أولاً حيث تعيشون، في العائلة، في المدرسة، في الرياضة وبين الأصدقاء، من خلال الذهاب للقاء الذين ينحدرون من ثقافة أخرى.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر كلمته بالقول ولأختتم، أيها الأعزاء، لا تكُن أنظاركم موجّهة نحو النجوم المتساقطة، التي تُعلّق عليها الرغبات الهشة. انظروا إلى الأعلى، إلى يسوع المسيح، “شمس البرّ”، الذي سيقودكم دائماً في دروب الحياة.
البابا: انظروا إلى المسيح، *شمس البرّ*، الذي سيقودكم دائماً في دروب الحياة!
 
					
					 
					





