البابا: إنَّ عالمنا يحتاج إلى وحدتنا وصداقتنا وتعاوننا أكثر من أي وقت مضى!

“لقد حمل الإعلان “في عصرنا”، لستين سنة خلت، الرجاء إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم، نحن مدعوون لإعادة تأسيس هذا الرجاء في عالمنا الذي دمرته الحروب وفي بيئتنا الطبيعية المتدهورة. لنتعاون، لأنه إذا كنا متحدين فكل شيء سيكون ممكنًا” هذا ما قاله قداسة البابا لاوُن الرابع عشر في مقابلته العامة مع المؤمنين
أجرى قداسة البابا لاوُن الرابع عشر صباح يوم الأربعاء مقابلته العامة مع المؤمنين في ساحة القديس بطرس واستهل تعليمه الأسبوعي بالقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يا حجاج الإيمان وممثلي التقاليد الدينية المختلفة! أرغب في أن أضع في صميم التأمل اليوم، في هذه المقابلة العامة المكرسة للحوار بين الأديان، كلمات الرب يسوع للمرأة السامرية: “إن الله روح فعلى العباد أن يعبدوه بالروح والحق”. يكشف هذا اللقاء في الإنجيل جوهر الحوار الديني الأصيل: تبادل ينشأ عندما ينفتح الأشخاص بصدق على بعضهم البعض، مع الاصغاء اليقظ والإثراء المتبادل. إنه حوار ولد من العطش: عطش الله للقلب البشري وعطش الإنسان لله. عند بئر سيخارة، يتجاوز يسوع حواجز الثقافة والجنس والدين. ويدعو المرأة السامرية إلى فهم جديد للعبادة، لا يقتصر على مكان معين – “لا في هذا الجبل ولا في أورشليم” – بل يتحقق بالروح والحق. هذه اللحظة تُلخِّص جوهر الحوار بين الأديان: اكتشاف حضور الله أبعد من كل الحدود والدعوة إلى البحث عنه معًا باحترام وتواضع.
تابع الأب الأقدس يقول لستين سنة خلت، في ٢٨ تشرين الأول أكتوبر ١٩٦٥، افتتح المجمع الفاتيكاني الثاني، بإصداره الإعلان “في عصرنا”، أفقًا جديدًا للقاء والاحترام والضيافة الروحية. تعلّمنا هذه الوثيقة المنيرة أن نلتقي بأتباع الديانات الأخرى لا كغرباء، بل كرفقاء درب على طريق الحقيقة؛ وأن نُكرِم الاختلافات مع التأكيد على إنسانيتنا المشتركة؛ وأن نميّز، في كل بحث ديني صادق، انعكاسًا للسرّ الإلهي الواحد الذي يشمل كل الخليقة.
أضاف الحبر الأعظم يقول وبشكل خاص، لا ينبغي أن ننسى أن التوجه الأول للإعلان “في عصرنا” كان نحو العالم اليهودي، الذي أراد القديس يوحنا الثالث والعشرون أن يعيد تأسيس العلاقة الأصلية معه. ولأول مرة في تاريخ الكنيسة، كان لا بد أن تتشكل معاهدة عقائدية حول الجذور اليهودية للمسيحية، تمثل نقطة لا عودة عنها على المستوى البيبلي واللاهوتي. “إنّ شعب العهد الجديد يرتبط روحيًّا بسلالة إبراهيم. فكنيسة المسيح تعترف في الواقع بأنّ بواكير إيمانها واختيارها موجودة، وفقًا للسرّ الإلهي للخلاص، في الآباء، وفي موسى، والأنبياء”. وهكذا، فإن الكنيسة، “إذ تتذكّر التراث المشترك مع اليهود، وإذ تدفعها لا دوافع سياسيّة بل المحبّة الدينيّة الإنجيليّة، تأسف لما جرى من أحقاد واضطهادات وجميع مظاهر معاداة الساميّة الموجّهة ضدّ اليهود في أيّ وقت ومن أيّ كان”. ومنذ ذلك الحين، أدان جميع أسلافي معاداة السامية بكلمات واضحة. وأنا أؤكد أيضًا أن الكنيسة لا تتسامح مع معاداة السامية وتحاربها، وذلك بسبب الإنجيل نفسه.
تابع الأب الأقدس يقول اليوم يمكننا أن ننظر بامتنان إلى كل ما تم تحقيقه في الحوار اليهودي الكاثوليكي خلال هذه العقود الستة. هذا لا يرجع فقط إلى الجهد البشري، بل إلى مساعدة إلهنا الذي، وفقًا للاعتقاد المسيحي، هو في ذاته حوار. لا يمكننا أن ننكر أنه كان هناك أيضًا سوء فهم وصعوبات وصراعات خلال هذه الفترة، ولكنها لم تمنع أبدًا استمرار الحوار. واليوم أيضًا، لا يجب أن نسمح للظروف السياسية وأعمال الظلم من قبل البعض بأن تشتتنا عن الصداقة، خاصة وأننا حققنا الكثير حتى الآن.
أضاف الحبر الأعظم يقول إنَّ روح الإعلان “في عصرنا” يستمر في إنارة مسيرة الكنيسة. فهو يعترف بأن جميع الأديان يمكنها أن تعكس “شعاعًا من تلك الحقيقة التي تنير جميع الناس” وتبحث عن إجابات على أسرار الوجود البشري العظيمة، بحيث لا يجب أن يكون الحوار فكريًا فحسب، بل روحيًا عميقًا أيضًا. يدعو الإعلان جميع الكاثوليك – الأساقفة والإكليروس والأشخاص المكرسين والمؤمنين العلمانيين – إلى المشاركة بصدق في الحوار والتعاون مع أتباع الديانات الأخرى، مع الاعتراف بكل ما هو صالح وحقيقي ومقدس في تقاليدهم وتعزيزه. وهذا الأمر ضروري اليوم عمليًا في كل مدينة في العالم حيث، بسبب التنقل البشري، يُدعى تنوعنا الروحي والانتمائي إلى اللقاء والتعايش بشكل أخوي. يذكّرنا الإعلان “في عصرنا” بأن الحوار الحقيقي يجد جذوره في المحبة، الأساس الوحيد للسلام والعدالة والمصالحة، بينما يرفض بحزم أي شكل من أشكال التمييز أو الاضطهاد، ويؤكِّد على الكرامة المتساوية لكل إنسان.
تابع الأب الأقدس يقول لذا، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، بعد ستين عامًا من الإعلان “في عصرنا”، يمكننا أن نسأل أنفسنا: ما الذي يمكننا أن نفعله معًا؟ إنَّ الإجابة بسيطة: لنتصرف معًا. إنَّ عالمنا يحتاج إلى وحدتنا وصداقتنا وتعاوننا أكثر من أي وقت مضى. يمكن لكل من دياناتنا أن تساهم في تخفيف المعاناة البشرية ورعاية بيتنا المشترك، كوكبنا الأرض. تعلمنا تقاليدنا الحقيقة والشفقة والمصالحة والعدالة والسلام. وعلينا أن نعيد تأكيد الخدمة للإنسانية، في كل لحظة. معًا، علينا أن نكون يقظين ضد إساءة استخدام اسم الله والدين والحوار نفسه، وكذلك ضد الأخطار التي يمثلها التطرف الديني والأصولية. علينا أيضًا أن نواجه التطور المسؤول للذكاء الاصطناعي، لأنه إذا تم تصميمه كبديل للإنسان، فيمكنه أن ينتهك بشكل خطير كرامته اللامتناهية ويحيد مسؤولياته الأساسية. يمكن لتقاليدنا أن تقدم مساهمة هائلة لأنسنة التكنولوجيا وبالتالي لإلهام تنظيمها، لحماية حقوق الإنسان الأساسية.
وختم البابا لاوُن الرابع عشر تعليمه الأسبوعي بالقول كما نعلم جميعًا، تعلمنا أدياننا أن السلام يبدأ في قلب الإنسان. وبهذا المعنى، يمكن للدين أن يلعب دورًا أساسيًا. علينا أن نعيد الرجاء إلى حياتنا الشخصية، وعائلاتنا، وأحيائنا، ومدارسنا، وقرانا، وبلداننا، وعالمنا. هذا الرجاء يقوم على قناعاتنا الدينية، على الاعتقاد بأن عالمًا جديدًا ممكن. لقد حمل الإعلان “في عصرنا”، لستين سنة خلت، الرجاء إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم، نحن مدعوون لإعادة تأسيس هذا الرجاء في عالمنا الذي دمرته الحروب وفي بيئتنا الطبيعية المتدهورة. لنتعاون، لأنه إذا كنا متحدين فكل شيء سيكون ممكنًا. لنتأكد من ألا يفرقنا شيء. وبهذا الروح، أود أن أعبر مرة أخرى عن امتناني لحضوركم وصداقتكم. لننقل روح الصداقة والتعاون هذا أيضًا إلى الجيل القادم، لأنه هو الركيزة الحقيقية للحوار. والآن، لنتوقف للحظة في صلاة صامتة: فالصلاة لديها القدرة على تغيير مواقفنا وأفكارنا وكلماتنا وأفعالنا.