الأب بازوليني: لنستسلم على مثال يسوع للحب الذي يخلِّص

“أن نطلب ما نحتاج إليه، وأن نسمح للآخرين بأن يقدموه لنا، هو من أسمى تعابير المحبة وأكثرها تواضعًا. ولكي نصل إلى هذا، علينا أن نتخلّى لا عن كبريائنا وحسب، بل أيضًا عن وهمنا بأنّه يمكننا أن نخلص بمفردنا” هذا ما قاله واعظ القصر الرسولي الأب روبرتو بازوليني في عظته في رتبة سجدة الصليب.
ترأس الكاردينال كلاوديو غوجيروتي عند الساعة الخامسة من مساء الجمعة رتبة سجدة الصليب في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان لمناسبة الجمعة العظيمة، وتخللت الرتبة عظة ألقاها الأب روبرتو بازوليني واعظ القصر الرسولي وقد استهلها بالقول تدعونا الليتورجيا اليوم إلى الصمت والخشوع، لأنه اليوم الذي يُنتزع فيه العريس من بيننا. ففي يوم الجمعة العظيمة، تتوقف الكنيسة عن كل نشاط لتسجد في عبادة صامتة، وتتأمل لا في هزيمة الله، بل في انتصاره العميق، ذاك الانتصار العجيب الذي تحقّق بشكل متناقض: بالصليب، كما سبق وتنبّأ به الأنبياء.
تابع واعظ القصر الرسولي في زمنٍ كزمننا، الغني بأشكال الذكاء الجديدة، يقدّم لنا سرّ آلام المسيح وموته ذكاء من نوعٍ آخر: إنه ذكاء الصليب، الذي لا يحسب لكنه يحب، لا يسعى إلى الكفاءة بل إلى البذل. ذكاء ليس صناعياً، بل جوهرياً عميقاً في علاقاته، لأنه منفتح بكليّته على الله وعلى الآخرين. ففي عالمٍ باتت الخوارزميات فيه ترشدنا إلى ما نرغب، وما نفكر، ومن نكون، يعيد إلينا الصليب حرية الخيار الحقيقي، لا على أساس الفعالية، بل على أساس المحبة التي تُسلّم ذاتها.
“وهو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع ذوارف إلى الذي بوسعه أن يخلصه من الموت، فاستجيب لتقواه”. إن تعبير “تقواه”، كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين، يمكن فهمه أيضاً على أنه القدرة على قبول ما يحدث بثقة، والتعامل حتى مع ما يبدو عدائياً أو غامضاً في البداية، بروح من التسليم الهادئ. فلنتوقف إذًا عند ثلاثة مواقف من آلام الرب، يُظهر لنا فيها المسيح بنفسه، ومن خلال كلماته، كيف يمكن أن نعيش الثقة الكاملة بالله بدون أن نتوقف عن كوننا رواد حياتنا.
“أنا هو”. في بستان الجتسمانية، حينما أقبل الجنود والحراس مع يهوذا للقبض على يسوع، لم يُسلِّم نفسه فوراً، بل فقط بعد أن وُجّه إليه السؤال للمرة الثانية، سلّم ذاته وسمح لهم أن يأخذونه. بهذه التفاصيل، يريد الإنجيلي أن يُظهر لنا أن يسوع لم يُقبَض عليه قسرًا، بل قدّم حياته بحرية تامة، كما قال سابقًا: “ما من أحد ينتزعها مني بل إنني أبذلها برضاي”. وعندما نتعرض نحن أيضاً لنكسات في حياتنا، يمكننا أن نتعلّم من يسوع أن نسلّم أمرنا لله بثقة، ونقبل ما يقلقنا وما يبدو لنا تهديدًا. وكيف يمكن فعل ذلك؟ بخطوة شجاعة إلى الأمام: بأن نُبادر نحن للقاء الواقع بدلاً من أن نهرب منه. هذا الموقف لا يُغيّر غالباً مجرى الأحداث، ولكن إن عاشه الإنسان بإيمان وثقة في التاريخ الذي يقوده الله، يسمح له بأن يبقى حرًّا في داخله وثابتًا.
“أنا عطشان” على خشبة الصليب، حين اقتربت ساعة الموت، عبّر كلمة الله عن عطشه: “وبعد ذلك، كان يسوع يعلم أن كل شيء قد انتهى، فلكي يتم الكتاب، قال: “أنا عطشان”. وكان هناك إناء مملوء خلا. فوضعوا إسفنجة مبتلة بالخل على ساق زوفى، وأدنوها من فمه”. لم يلفظ يسوع أنفاسه الأخيرة قبل أن يُعبّر، بلا خجل، عن حاجته العميقة. لقد ودّع التاريخ الإنساني وهو يقوم بأحد أصدق الأفعال وأكثرها إنسانية، بل وأشدّها صعوبة: أن يطلب ما لا يستطيع أن يمنحه لنفسه. إن جسده، الذي عُرّي من كل شيء، يكشف عن أعمق ما في الإنسان: الحاجة إلى الحب، والقَبول، والإصغاء. وفي تلك اللحظة الجوهرية والبسيطة، التقى عطش الإنسان أخيرًا بمحبة الله. هكذا أيضًا نصبح نحن قادرين على عبور تلك اللحظات التي يتضح فيها أننا لا نكفي أنفسنا. عندما يكشف الألم، أو التعب، أو الوحدة، أو الخوف هشاشتنا، قد نميل إلى الانغلاق، أو إلى التظاهر بالقوة، أو إلى الادّعاء بالاكتفاء. ولكن في تلك اللحظات بالذات، تُفتح فسحة لأسمى أشكال الحب: الحب الذي لا يفرض نفسه، بل يسمح بأن تتمَّ مساعدته. أن نطلب ما نحتاج إليه، وأن نسمح للآخرين بأن يقدموه لنا، هو من أسمى تعابير المحبة وأكثرها تواضعًا. ولكي نصل إلى هذا، علينا أن نتخلّى لا عن كبريائنا وحسب، بل أيضًا عن وهمنا بأنّه يمكننا أن نخلص بمفردنا. وبالتالي علينا أن نقبل الحاجة لا كضعفٍ نخجل به، بل كحقيقة نقيم فيها، وأن نعترف بأننا لا نريد – ولا نستطيع – أن نحيا وحدنا.
“لقد تمّ”. بعد أن تلقّى ما قُدِّم له، أعلن يسوع تمام إنسانيته – وإنسانيتنا – في اللحظة التي اختار فيها، إذ عُرِّيَ من كل شيء، أن يهبنا حياته وروحه بالكامل. لم يكن هذا استسلامًا سلبيًا، بل فعلًا من أسمى أفعال الحرية يقبل الضعف كالمكان الذي فيه يكتمل الحب ويبلغ تمامه. في هذا التصرّف، يكشف لنا يسوع أن العالم لا يُخلَّص بالقوة، بل بضعف الحب الذي لا يحتفظ بشيء لنفسه. وعندما تُخنقنا صلبان الحياة وتشلّ حركتنا، نشعر غالبًا بأننا فاشلون، غير ملائمين، خارج الزمن والمكان. فنُقاوِم، ونُصرُّ على أسناننا، آملين أن نخرج سريعًا من تجربةٍ لا نرى فيها سوى إلا سجنًا. لكن الكلمات الأخيرة للمصلوب تفتح لنا أفقًا جديدًا: تُرينا كم من الحياة يمكنها أن تنبع من اللحظات التي يبدو فيها أنه لم يبقى شيئًا لنفعله، فيما الحقيقة هي أن أجمل ما يمكن فعله حينها هو أن نبذل ذواتنا بالكامل.
لقد شاء الأب الأقدس أن يدخلنا في هذا اليوبيل مُذكِّرًا إيانا بأن المسيح هو مرساة رجائنا، التي يمكننا أن نتشبّث بها بثقة، ممسكين بحبل الإيمان الذي ربطنا فيه منذ المعمودية. ومع ذلك، لا بد من أن نعترف بشجاعة وصدق: ليس من السهل أن “نتمسك بشهادة الإيمان”، لاسيما عندما تدهمنا ساعة الصليب. لذلك، بعد قليل، سيكون من المهمِّ أن نقبل دعوة الرسالة إلى العبرانيين، ونتقدّم بثقة إلى “عرش النعمة لننال رحمة ونلقى حظوة ليأتينا الغوث في حينه”. هذا لا يعني أن الخوف سيزول أو أن المسيرة ستغدو فجأة آمنة. بل يعني شيئًا واحدًا: أننا، في قلب هذا اليوبيل، نختار نحن المسيحيين درب الصليب كاتجاه وحيد ممكن لحياتنا. نعلم جيدًا أن قوانا وحدها لا تكفي لإتمام هذه المسيرة، لكن الروح القدس، الذي ملأ قلوبنا من قبل برجاء لطيف، سيُسعف ضعفنا، ليذكرنا بالشيء الأهم: كما أحبنا سنكون قادرين على أن نحب أصدقاءنا وحتى أعداءنا. عندها سنكون شهودًا للحقيقة الوحيدة التي تخلّص العالم: الله هو أبونا. وجميعنا أخوات وإخوة في المسيح يسوع ربنا.