إدوار بروفيتليش، شاهد الإيمان في وجه جنون الحرب

ترأس الكاردينال النمساوي كريستوف شونبورن، يوم السبت الماضي، في تالين احتفال تطويب رئيس الأساقفة اليسوعي إدوار بروفيليتش الذي ذهب ضحية النظام السوفييتي. وقال نيافته إن حياة هذا الطوباوي تشكل مثالا لنا اليوم، وتدلنا على الدرب الواجب أن يتّبعها المؤمن المسيحي في زمن الاضطهاد. الطوباوي الجديد، كان أول رئيس أساقفة لإستونيا، وقد كتب مرة أنه ينبغي على الراعي أن يمكث دائماً إلى جانب قطيعه، وأن يتقاسم معه الأفراح والأتراح، وعبّر عن ثقته الراسخة بأنه إذا سار الله معه، لكن يكون وحيداً على الإطلاق.
خلال الاحتفال الديني الذي ترأسه في ساحة الحرية في تالين ممثلاً البابا لاون الرابع عشر توقف الكاردينال شونبورن عند هذه الكلمات التي كان يرددها رئيس الأساقفة الشهيد وقد كتبها أيضا في رسالة وجهها إلى أقربائه، خلال مرحلة حساسة من تاريخ إستونيا، عندما تعرضت لاجتياح الجيش السوفيتي في العام ١٩٤٠، الأمر الذي فرض قيوداً على حرية الكنيسة. وكانت قد تسنت للطوباوي فرصة أن يعود إلى ألمانيا، بلده الأم، إلا أنه قرر البقاء إلى جانب المؤمنين. وقد دفع حياته ثمناً لهذا الخيار. ففي السابع والعشرين من حزيران يونيو من العام ١٩٤١ تم اعتقاله وترحيله إلى كيروف بروسيا، من قبل القوات السوفيتية، حيث حُكم عليه بالموت بتهمة التجسس. وأدت أعمال التعذيب التي تعرض لها في السجن إلى وفاته في الثاني والعشرين من شباط فبراير ١٩٤٢ قبل أن يُنفذ بحقه حكم الإعدام. وقال في هذا السياق الكاردينال شونبون إن الطوباوي بروفيليتش كان مستعداً للتضحية بحياته من أجل الخراف، وقد اتخذ القرار، الذي كلّفه غالياً، يحركه فرح المسيح.
لم تخل عظة نيافته من الحديث عن المآسي التي عاشتها أوروبا في أربعينيات القرن الماضي، مشيرا إلى قوى الجحيم التي تفجرت خلال حرب مجنونة لم تشهد البشرية مثيلا لها في التاريخ، لاسيما خلال المواجهة التي حصلت بين ألمانيا النازية بقيادة هتلر وروسيا السوفيتية بقيادة ستالين. ولفت شونبورن إلى أن مخيمات الاعتقال النازية والسوفيتية كانت تعبيراً جلياً عن الاحتقار تجاه الحياة البشرية، مسلطاً الضوء في هذا السياق على أهمية الكرامة النابعة من الإيمان والتي كان يتمتع بها الطوباوي الراحل عندما قرر أن يضع حياته بين أيدي جلاديه.
بعدها أكد نيافته أن احتفال التطويب يتم اليوم في وقت يواجه فيه العالم خطر تهديد كان يُعتبر من الماضي، لأن الحرب باتت جزءاً من حياتنا اليومية، لاسيما في القسم الشرقي من أوروبا بسبب الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا. وذكّر الكاردينال النمساوي أيضا بالحرب العالمية الثالثة المجزّأة التي تحدث عنها مراراً وتكراراً البابا الراحل فرنسيس، هذا ناهيك عن ظاهرة الاضطهاد التي يتعرض لها المسيحيون في مختلف أنحاء العالم. ورأى أن الشهادة التي تركها الطوباوي الجديد تكتسب أهمية كبرى في ظل هذا السيناريو الذي نعيشه اليوم، خصوصا لأن حياته تشكل مثالاً يُحتذى به في ظل الاضطهادات.
وعاد نيافته ليذكّر بأن رئيس الأساقفة الراحل قرر البقاء في إستونيا على الرغم من كل المخاطر المحدقة بالبلاد وشعبها. وقد شاء أن يستجيب بكلمة نعم لمشيئة الله، باسمه الشخصي وباسم الكنيسة كلها، ومن هذا المنطلق إن احتفال التطويب، قال شونبورن، ليس موجهاً نحو شخص واحد إنما نحو الجماعة بأسرها، خصوصا وأن القداسة الشخصية تعضدها دائماً قداسة الكنيسة، عروس المسيح.
في الختام شاء أن يذكّر الكاردينال النمساوي بمبادرتين نُظمتا خصيصا لهذه المناسبة، الأسبوع الماضي: المبادرة الأولى أطلقها الآباء الدومينيكان في الرابع من الجاري في تالين وقد تمثّلت في القراءة، غير المنقطعة وعلى مدار الساعة، لأسماء الضحايا الذين سقطوا في مخيمات الاعتقال السوفيتية. أما المبادرة الثانية فقد ارتبطت باحتفال يوبيل الألفين الكبير، عندما طلب البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى مجموعة من المؤرخين أن يضعوا كتاباً يضم أسماء الشهداء المسيحيين في القرون القليلة الماضية. وختم الكاردينال شونبورن عظته في تالين مشيرا إلى أن الله وحده يعرف هذه الأسماء كلها، مذكرا بأن الدماء التي ذرفها هؤلاء الشهداء على مر العصور تحولت إلى بذرة نما منها المسيحيون.