ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.
بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “تدعونا الكنيسة المقدسة في هذه الفترة التي نستعد فيها لاستقبال ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد، إلى تهيئة نفوسنا، كوننا مدعوون للإشتراك في الحدث الخلاصي لتجسد «عمانوئيل» الذي تفسيره «الله معنا» (مت 1: 23). علينا ألا ننسى هذه الدعوة، وألا نفوت فرصة المشاركة في العيد، متلهين بأمور أرضية زائلة تبعدنا عن الله، كما نرتل في القداس الإلهي: «لنطرح عنا كل اهتمام دنيوي، كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكل». في إنجيل اليوم إنسان أعد مائدة احتفالية دعا إليها كثيرين لكن المدعوين اعتذروا لأنهم مهتمون بأمور كثيرة، ما دفع بصاحب العشاء إلى دعوة الهائمين في الطرق من المساكين والجدع والعميان والعرج”.
أضاف: “إذا قرأنا مثل اليوم ضمن إطاره الكتابي، نجد قبله حديثا مع الفريسيين والناموسيين عن كيفية التصرف (14: 1-14)، وبعده كلاما مع الجموع التي كانت تتبع الرب على شروط التلمذة له أي أن يتركوا كل شيء ويتبعوه (14: 25-27). كذلك، نقرأ قولا لأحد سامعي الرب: «طوبى لمن يأكل خبزا في ملكوت الله» (14: 15). نفهم من هذا أن مثل العشاء هو كلام على مائدة ملكوت الله، وأن المدعوين إليه هم من شعب الله الذين يعرفون شريعته، أي الفريسيون والناموسيون والكتبة. إلا أنهم اعتدوا بأنفسهم إلى حد الإكتفاء بما عندهم واعتبار الإشتراك بعشاء الرب غير مهم. لقد أعطوا ثلاثة أعذار ليستعفوا من تلبية الدعوة: إثنين يتعلقان بمحبة المال، أي الأرض والماشية التي تدر الأموال، وآخر يتعلق بمحبة الذات واللذات، أي المرأة الزوجة. لكن العشاء الإلهي لم يلغ بسبب عدم حضور المدعوين إليه، إنما دعي الذين يعتبرون مرفوضين ومرذولين من شعب الله. هذا يعني أن الدعوة إلى عشاء الرب ليست محصورة بجماعة تعتبر نفسها تخصه، بل هي دعوة مفتوحة أمام الجميع. وإن كان بعض المدعوين يخصون الله بحسب الناموس والشريعة، كالفريسيين والناموسيين، فهم لم يدعوا لأنهم يستحقونها، إنما فقط لأن الله شاء. هم يعتبرون أنفسهم شعب الله الخاص ويظنون أن الله لا يستطيع فعل شيء من دونهم، فيما هم لا يستغنون بالله. لكن العبرة من مثل اليوم أن من استحق الدعوة كان من يعتبر غير مستحق لها. في هذه الفترة التي نستعد فيها للميلاد، تضع الكنيسة هذا النص الإنجيلي أمامنا، نحن المسيحيين الذين نعتبر أنفسنا شعب الله، كي لا نقع في تجربة الإكتفاء بالذات ومحبتها، بل نلبي دعوة الله لنا معتبرين أنفسنا غير مستحقين، فنستحق دعوته ونشترك معه في عشائه الإلهي، ونكون من المختارين.”
وتابع: “نصلي اليوم معا من أجل راحة نفسي إبنين للكنيسة بارين، رجلين لبنانيين حقيقيين ناضل كل منهما على طريقته وفي مجاله، من أجل الحق والخير، من أجل الحرية والعدالة وكرامة الإنسان. لو كانا بيننا لرفعا الصوت عاليا ضد القهر الذي يعيشه شعبا لبنان وفلسطين، وضد قتل الأطفال والمدنيين، وضد محو مدن وإزالة معالم تاريخ، ولعملا من أجل وقف المجزرة الجارية أمام أعين العالم، متمسكين بحق كل إنسان بالحياة وبحرية الفكر والتعبير. كم يفتقد بلدنا إلى أمثالهما بالنزاهة والإنسانية وحب الوطن والتشبث بكل شبر من أرضه. المحامي عصام خوري، الذي تنوعت مسؤولياته بين نقيب للمحامين، ووزير للدفاع الوطني، ووزير للتربية، عاش حياة زينها حب الكنيسة والوطن، موازنا بينهما في مسيرته العملية والإجتماعية، فلم يفضل أحدهما على الآخر، بل اعتبرهما جناحين يحلق بهما الإنسان معا إذا عرف كيف يحبهما ويحترمهما ويعمل معهما ومن أجلهما. في أيامنا ما أكثر من يضربون عرض الحائط بالدستور والقوانين من جهة، وبالمعتقدات الإيمانية من جهة أخرى، ويدوسون العدالة غير مكترثين بآلام الناس، فتنعكس نتائج أعمالهم السلبية ضررا على بلدنا. الحبيب عصام، كان دائم الإلتجاء إلى الرب، مصليا كي يؤازره «في كل عمل صالح» كما نطلب في صلواتنا. عندما انتخب نقيبا للمحامين في العام ١٩٨١، هيمنت على الانتخاب أجواء لافتة من الإلفة والحرية والحماس، فوصف الانتخاب بالحدث الوطني والديمقراطي. كم يتعطش لبنان إلى أجواء مماثلة، لأن كل استحقاق ديمقراطي يتحول في أيامنا إلى صراع جبابرة، وتنافس مصالح وأنانيات يؤدي إلى التعطيل أو التفجير أو التهجير. عصام جمع بين الإيمان والثقافة وحب الوطن، فعمل بخفر في المحافل الوطنية والعالمية من أجل إعلاء شأن بلده، خصوصا في المجالات التي تولى مسؤوليتها. وكما عاش بخفر، هكذا رحل، لا قصور لديه ولا سيارات وممتلكات، لأنه عرف كيف يحمي نفسه من شيطان الفساد الذي يعبث بغالبية نفوس المسؤولين والزعماء”.
وقال: “أما الحبيب جبران الذي غادر أرضنا منذ ثمانية عشر عاما، مع رفيقيه نقولا وأندريه، فكان شهيد ثقافتين متناحرتين: ثقافة إنسان محب لوطنه ولكل ذرة من ترابه، وثقافة مجرم أراد إسكات كل صوت جريء وقلم حر، بهدف بث روح الجهل والحقد والطائفية المشرذمة، بدلا من روح المحبة والإنفتاح والمواطنة الحقة. جبران كان صوتا صارخا في غياهب هذا البلد الذي أظلمته الشهوة الشريرة، شهوة المال والسلطة والقوة. لقد شاء أن يكون نهار لبنانه مشمسا ساطع الضياء، مفتشا عن الحق، ناطقا بالحقيقة، رافعا لواء الحرية والعدالة، لكن الشيطان أغوى نفوس أتباعه على هذه الأرض، فأظلم النهار، وغابت شمس الحرية والديمقراطية، منذ ذلك الحين، مع إسكات أصوات عدة نادت باستنارة العقول والنفوس ورذل الأحقاد. لم يأت بعد جبران من يتحلى بجرأته، وبإيمانه ووطنيته الصادقة، ربما لأن القلوب ضعفت خوفا من كم الأفواه والإغتيال، وتعطيل القضاء، لذا على الجميع تذكر قول الكتاب: «إن كان الله معنا فمن علينا؟» (رو 8: 31).
أضاف: “لبناننا اليوم بلا رأس، وهو في عين العاصفة مع كل المخاطر المحدقة به. خفت بريقه، خنق صوته، ضاع دوره، هجرت طاقاته، ومن بقي من شعبه يعيش في الفقر والقهر واليأس. جبران صرخ عاليا عام 2001 سائلا: «أين هو دور لبنان في حوار الحضارات وفي تقريب وجهات النظر بين الغرب والشرق؟ أين لبنان همزة الوصل، لبنان الحضارة، لبنان الإشعاع…؟ أين العدالة؟ أين السلم الأهلي؟ أين الحوار الداخلي؟ أين دولة المؤسسات؟». أسئلة ما زال كل لبناني شريف يطرحها وينتظر الإجابة عنها. في العام نفسه، في زمن يشبه ما نعيشه حاليا كتب: «لبنان صلب في موقفه الإقليمي، وصلب في موقفه ضد العدو وما يقوم به من إجرام في الأراضي المحتلة، وما يقوم به ضد لبنان يوميا… لبنان صلب في وحدته وتعددية مجتمعه، وصلب في إيمانه وتمسكه بهويته وحضارته الفريدة من نوعها، ولبنان صلب وشرس في الدفاع عن وحدة أرضه وشعبه واستقلاله وسيادته. لكن لبنان اللبنانيين غير مستعد لأن يساق مجددا إلى حلبة صراع لا علاقة له به، وغير مستعد أن يقبل بأن تصبح هويته ووحدة شعبه واستقلال أرضه موضع تهديد. وحدتنا وخصوصيتنا وهويتنا مقدسات لن يسمح اللبنانيون لأحد بأن يمسها أو يهددها أو أن يلعب بنار التفرقة مهما كانت الذرائع».
وختم: “دعاؤنا أن يتردد صدى هذه الكلمات بقوة في أذهان المسؤولين والزعماء الذين قد يبيعون الوطن وأرضه من أجل ثلاثين من الفضة. رحم الرب رجالا مثل عصام خوري وجبران تويني، ومنح وطننا قوافل من الرجال الأمناء الأوفياء لينقذوه من براثن كل عدو متربص به سياسيا وثقافيا واجتماعيا وإقتصاديا وإيمانيا”.