جامعة القدّيس يوسف – 21 كانون الأوّل 2024
“لم يتكلّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان”(يو 7: 46).
1. فيما كان يسوع يعلّم في الهيكل، أثناء عيد المظال، كان يقول عنه الناس: “إنّه هو النبي حقًّا، وآخرون: هذا هو المسيح، وآخرون: وهل يأتي المسيح من الجليل؟ ألم يقل الكتاب: “إنّ المسيح يأتي من سلالة داود، ومن بيت لحم قريته؟ وكان في الجمع انقسام من أجله” (يو 7: 40-43).
فأرسل عظماء الكهنة والفريسيون شرطًا ليقبضوا عليه ويحضروه. أمّا هؤلاء لـمّا سمعوا تعليمه في الهيكل، رَجعوا إلى مرسليهم قائلين: “لم يتكلّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان” (يو 7: 46). إنّه تعليم إلهيّ من الإله والإنسان يسوع المسيح. إنّ هؤلاء الشرط الأميّين أخبروا علماء الشريعة ورؤساء الكهنة والفرّيسيّين. فتعليم يسوع يخرج من قلبه، موجّهًا إلى قلب الإنسان، حيث يُقبل ويُحفظ ويُثمر. وهذا ما نرجوه لكلّ واحد وواحدة منّا، بل ولكلّ إنسان.
إنّ أولئك الشرط تفاعلوا مع كلام يسوع، ورفضوا القبض عليه باعتراض الضمير. فتتمّ فيهم كلمة يوحنّا الرسول: “ذاك الذي سمعناه ورأيناه وتأمّلناه ولمسناه … به نبشّركم” (1 يو 1: 1). يستعمل الرسول أربعة أفعال: سمع ورأى وتأمّل ولمس. بعد هذا الاختبار تمنّع الشرط عن القبض على يسوع.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة، ونحيي فيها يوبيل المئة والخمسين سنة لتأسيس جامعة القدّيس يوسف الزاهرة (1875-2025)، ويتزامن هذا اليوبيل مع اليوبيل الكبير في العام 2025 الذي يفتتحه قداسة البابا فرنسيس ليلة الميلاد في الرابع والعشرين من شهر كانون الأوّل الجاري بفتح الباب المقدّس في بازيليك القدّيس بطرس في روما. أمّا في البطريركيّات والأبرشيّات فيحتفل باليوبيل الكبير في الأحد الأوّل بعد الميلاد في 29 كانون الأوّل الجاري. فإنّه يضفي على احتفالنا قيمة روحيّة نبويّة.
3. إنّا في يوبيل المئة والخمسين على تأسيس جامعة القدّيس هذه، نذكر في هذه الذبيحة الإلهيّة كلّ الآباء اليسوعيّين الذين علّموا فيها، ورؤساءها الثلاثة والعشرين بدءًا من الأب Auguste Tardy وصولًا إلى الأب سليم دكّاش الذي بدأ ولايته عليها سنة 2012، ومن بينهم ثلاثة توّلوا الرئاسة لأكثر من ولاية. كما نذكر بصلاتنا مئات الآلاف من الطلّاب الذين تخرّجوا منها في مختلف الاختصاصات، وكان بينهم رجالات دولة وكنيسة ومجتمع مدني.
4. في هذه المؤسّسة الجامعيّة الثقافيّة يكشف الإنجيل عن الرباط الذي لا ينفصم بين كلمة الله والكلام البشريّ الذي به يتواصل الله معنا، وبالتالي بين كلمة الله والثقافة. في الواقع، لا يكشف الله ذاته للإنسان بطريقة مجرّدة، إنّما بتبنّي لغات وصور وعبارات مرتبطة بثقافات مختلفة.
فها شعار قدّاسنا على عتبة الميلاد: “هيّا نمضي نحو بيت لحم”. إنّها كلمة الرعاة الأميّين الذين بلغتهم بشرى ميلاد الكلمة. فقال بعضهم لبعض في تلك الليلة المقدّسة التي كانوا يسهرون فيها على مواشيهم: ” هيّا نمضي نحو بيت لحم لنرى الكلمة التي حدثت، كما أعلمنا الربّ، وجاؤوا مسرعين” (لو 2: 15-16). وبعد أن رأوا الطفل ومريم ويوسف، “أخبروا بالكلمة التي قيلت لهم عن الطفل” (لو 2: 16-17). ورجع أولئك الرعاة وهم يسبّحون الله ويهلّلون على ما رأوا وسمعوا (لو 2: 20).
وكذلك مجوس المشرق، علماء الفلك، قرأوا علامة ميلاد ملك اليهود الذي ولد، وقد رأوا نجمه فجاؤوا ليسجدوا له … فلمّا وجدوه سجدوا له وقدّموا لهم هداياهم النبويّة: ذهبًا ومرًّا وبخورًا (متى 2: 1-2؛ 11).
وهكذا ألهمت كلمة الله، طول العصور، الثقافات المختلفة، إذ خلقت قيمًا أخلاقيّة أساسيّة، وتعابير فنيّة مختارة، وطرق حياة مثاليّة. لذلك، وفي منظور لقاء متجدّد بين الكتاب المقدّس والثقافات، ليس على جميع لاعبي الأدوار في العالم الثقافيّ أن يخافوا من الانفتاح على كلمة الله التي لا تهدم أبدًا الثقافة الحقيقيّة، بل تكون حافزًا ثابتًا في البحث عن تعابير بشريّة أكثر فأكثر ملائمة وذات مغزى. كلّ ثقافة حقيقيّة، لكي تكون فعلًا في خدمة الإنسان، يجب أن تنفتح على ما هو أسمى، وأخيرًا على الله (الإرشاد الرسوليّ للبابا بندكتوس السادس عشر: كلمة الربّ، فقرة 109).
5. إنطلاقًا من هذا الواقع، التزمت جامعة القدّيس يوسف بتأدية مهامّ رئيسيّة ثلاث أقتبسها من خطاب الرئيس الأب سليم دكّاش في عيد القدّيس يوسف 19 آذار 2024:
المهمّة الأولى: توفير المعرفة الأكثر تقدّمًا في التخصّصات المختلفة، عن طريق التعليم والبحث، وهذا هو معنى إنشاء كليّات جديدة وبرامج جديدة، مع مرور الوقت، بما فيها فتح فروع ناطقة باللغة الإنجليزيّة.
المهمّة الثانية: تزويد الطلاب بكفايات مستعرضة مثل تنشئة العقل المستنير المفكّر، والانفتاح الفكريّ، والمنهجيّة، والصرامة والحسّ النقديّ، وكذلك الأمر، التنشئة الاجتماعية والثقافيّة على قيم الإنسانيّة، والوطنيّة، والأخوّة الشاملة والمواطنة الملتزمة، وكذلك الأمر، على التضامن الاجتماعي والوطنيّ.
المهمّة الثالثة، مواجهة جميع الصعاب، في إيصال رسالة الانفتاح واحترام التنوّع وتوقير القيم الإنسانيّة، والالتزام المدنيّ في خدمة المجتمع، ومحبّة الحريّة ورفض العبوديّة. إنّ تصميم جامعتنا على احترام هذه القيم جعل منها رافعة للمقاومة الفكريّة الثقافيّة.
6. إنّ كلمة الله تصوّب العمل السياسيّ الذي غايته تأمين الخير العام ومنه خير جميع المواطنين وكلّ مواطن. ويهدف العمل السياسيّ إلى خير الإنسان بتوفير كلّ ما يلزم من أجل نموّه الشامل. وإنّا نتطلّع إلى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة في 9 كانون الثاني المقبل بعد فترة فراغٍ مخزٍ دامت سنتين وشهرين، رئيس يعمل من أجل العدالة والمصالحة والسلام ووحدة اللبنانيّين والنهوض الاقتصاديّ وورشة بناء ما تهدّم من منازل ومؤسّسات. إنّ كلمة الله بالذات هي التي تندّد بدون لبس بالمظالم، وتعزّز التضامن والمساواة، وتذكّرنا بأنّ السلام ممكن، وأنّه يجب علينا أن نكون صانعي سلام.
7. فلنصّلِ، أيّها الإخوة والأخوات، إلى المسيح سلامنا (أف 2: 14)، لكي يبارك جامعتنا، جامعة القدّيس يوسف، ويوبيلها المئة والخمسين، ويجعلها صرحًا يخرّج صانعي سلام. له المجد والتسبيح مع الآب والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين.
عظة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الرَّاعي يوبيل 150 سنة على تأسيس جامعة القدّيس يوسف
