فيما يلي النص الكامل لعظة أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان للعلاقات مع الدول والمنظمات الدوليّة، رئيس الأساقفة بول ريتشارد غالاغر خلال ترؤسة القداس الإلهي في كنيسة العذراء الناصرية في عمّان، بمشاركة رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة. وقد قرأ ترجمتها العربيّة مدير المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام الأب رفعت بدر.
ترجمة منير بيوك – خاص أبونا :
الإخوة والأخوات الأعزاء،
أحيي بحرارة جميع أعضاء مجلس رؤساء الكنائس في الأرض المقدسة المجتمعين هنا في عمّان. أحيي بطريرك القدس للاتين صاحب الغبطة الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، وأشكركم على ترحيبكم الحار. أنقل اليكم تحيات قداسة البابا فرنسيس وبركاته، أنتم الحاضرين من اللاتين، والروم الكاثوليك، والسريان، والموارنه، والكلدان والأرمن، كهنة ومؤمنين، وإلى عائلاتكم وجماعاتكم، وخاصة اللاجئين المسيحيين من فلسطين والعراق وسوريا .
آتي اليوم لزيارة المملكة الأردنية الهاشمية، لأنّه قبل ثلاثين عامًا، قرّر البابا القديس يوحنا بولس الثاني والملك الحسين بن طلال، إقامة علاقات دبلوماسيّة تهدف لتعزيز علاقة الاحترام والصداقة طويلة الأمد التي كانت قائمه بالفعل بين الكرسي الرسولي والأردن. وبالنسبة للكرسي الرسولي، تعتبر العلاقات الدبلوماسيه ممارسة قديمة وراسخة، فهي أداة لدعم حرية الكنيسة الكاثوليكية Libertas Ecclesiaeفي البلاد، والدفاع عن الكرامة الإنسانية Dignitatis Humanae وتعزيزها اعتمادًا على قيم العدالة والحقيقة والحرية والمحبة.
وقد ميّزت هذه المبادئ على الدوام علاقاتنا الودية مع المملكة الاردنية الهاشمية. فالكنيسة الكاثوليكية في هذا البلد تتميّز بكل من الحماس والنشاط، كما يمكنها الانخراط في النشاط الرعوي بطريقة حرة ومثمرة، مما يوفر خدمة ذات أهمية خاصة للشباب.
فالشباب، كما تعلمون، بحاجة إلى كنيسة نابضة بالحياة الآن أكثر من أي وقت مضى. فهم بحاجة إلى رعاة ومعلمي ديانة يعرفون كيف يبرزون جمال الإيمان بالمسيح القائم الذي “جاء ليخدُم لا ليخدَم”. فلا نتعبنّ أبدًا من إعلان الإنجيل وعيشه من أجل تعزيز هويتنا المسيحية الأصيلة، سواء كان ذلك في الرعايا، أو في المدارس الكاثوليكية -التي يكنّ لها المجتمع الأردني تقديرًا عاليًا- أو في الأماكن المقدسة.
وماذا يعني أن تكون مسيحيًّا؟
يتساءل المزمور الذي سمعناه للتو: “أرفع عيني نحو الجبال، من أين يأتي عوني؟” دعونا ننظر إلى “جبل” التطويبات الذي يساعدنا يسوع منه على فهم هوية المسيحي. فالتطويبات طريق “لأن نكون” ونتيجة لذلك، تصير طريقًا “لأن نعمل”. إنها تثري، وتتمّم القيم الواردة في الوصايا العشر، وتمدنا بوجهة واضحة لحياتنا.
إلا إن التطويبات تقدم لنا وضعًا يكاد يكون متناقضًا. فالذين يعانون أكثر من غيرهم هم الذين يُطلق عليهم “المباركون”. يعلن السيد يسوع أن الفقراء، والجياع والعطاش، والمضطهدين والمعذّبين، والودعاء مباركون. لقد انقلبت معايير العالم رأسًا على عقب لإظهار رؤية الله.
نعم، التطويبات تتطلب “الارتداد”. من الناحية اللغوية، تعني هذه الكلمة “تغيير المسار”. إنها تعني تغييرًا داخليًا عن الاتجاه الذي نتخذه بصورة تلقائية. لكن هذا التحوّل يسلط الضوء على ما هو طاهر وما هو أسمى. ومن خلاله يتم إعادة ترتيب وجودنا بالطريقة الصحيحة. بالاتداد نصبح “إنسانًا جديدًا”، ضمن برنامج حياة يؤدي إلى نوع مختلف من السعادة. هذه السعاده لا تقوم على مشاعر عابرة، بل على فرح الوجود العميق “مع” المسيح و”في” المسيح، في خدمة ملكوت الله.
تخبرنا التطويبات أنّ على المسيحيّ أن يكون شخصا وديعا لا يخجل من البكاء، وله قلب نقي ورحيم قادر على المسامحة، ويحتاج دائمًا إلى الله، ويبحث عن “غذاء وماء البر الحقيقيين”، كما أنه محب للسلام ومؤيد له، ولا يخاف الاضطهاد من أجل الإنجيل.
كل هذه الصفات يتميز بها تلميذ المسيح، لكنّها هي أيضًا صورة للمسيح نفسه. وعلى بعد أميال قليلة من هنا، على ضفاف نهر الأردن، انفتحت السماء ونزل روح الله بهيأة حمامة على يسوع، ودوّى صوت من السماء قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (متى 3: 17). كلما تأملنا في التطويبات، كلما تعرفنا على هوية هذا الحبيب للآب، المخلص، يسوع المسيح.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أنتم تشهدون لحقيقه أنّ كونكم “أقل” عددًا من الأغلبية الساحقة لا يعني أن تكونوا “أقل” مسيحيين. العكس تمامًا! إذا كان عددنا قليلا، فهذا يعني أننا بحاجة إلى أن نظهر بشكل أكثر أصالة وثباتًا بأننا لا نخاف من أن نعيش الإنجيل. لا أحد منا كامل أو منزه عن الخطيئة. ومع ذلك، فنحن مجموعة من بشر، على الرغم من الخطيئة، مستعدون لبذل حياتنا من أجل المسيح، وفقًا للدعوة التي تلقيناها.
كونوا شجعان! تحلوا دائمًا بالأمل والرجاء! أوجه هذه الدعوة إلى جميع كنائس الشرق الأوسط. أنتم تدركون أنه في بعض البلدان لا يستطيع المسيحيون الصلاة بلغتهم الخاصة، وفي بلدان أخرى لا يمكنهم بناء الكنائس، وفي بلدان أخرى لا يتمتعون بحرية المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية، وفي بعض البلدان يتعرّضون لاضطهاد حقيقي وعنيف. ومع كل ذلك، يعزينا يسوع قائلاً: “افرحوا وابتهجوا، لأنّ أجركم في السموات عظيم” (متى 5: 12 أ). وعلينا أن نتضامن مع معاناتهم. فلنواصل العمل بلا كلل من أجل تمسّكهم الحرّ بالمسيح ومن خلال الصلاة من أجلهم.
وهنا أؤكد لكم أنه لدى البابا فرنسيس اهتمامًا خاصًا بالشرق الأوسط بأكمله. وهو يتابع باهتمام كبير ما يحدث في فلسطين واسرائيل، وكما تعلمون جيدًا، فهو على اتصال دائم بالكنيسة الكاثوليكية في غزة. بعد غد المصادف 13 أذار، ستكون الذكرى الحادية عشرة لانتخابه حبرًا أعظم، وأدعوكم للصلاة معي من أجل قداسته خلال هذا القداس الإلهي. فليمده الرب بالصحة والعافية وليحمه وليقوّه.
لقد جعل الرب يسوع بطرس وخلفاءه الصخرة التي سيبني عليها كنيسته. وبهذه الأولوية، يكون البابا هو المبدأ المرئي للوحدة المسيحية. فلنفرح، بطاعة أمينة، بهذه الشركة القائمة بين روما وجميع الكاثوليك المنتشرين في العالم أجمع. إنّ التنوّع الغني في الإدارات الكنسيّة، والطقوس الليتورجية، إضافة إلى التراث اللاهوتي والروحي الخاص بالكنائس المحلية، المتحد في جهد مشترك، يظهر بشكل أكثر بهاء كاثوليكية الكنيسة غير المنقسمة” (نور الامم 23).
نشعر اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بوحدة عظيمه في الصلاة التي تجمعنا جميعا، فالكنيسة الكاثوليكية جمعاء المنتشرة في جميع أنحاء العالم، تصلي من أجل نية واحدة: أي السلام! يصلي البابا فرنسيس، مع الكنيسة الجامعة، من أجل أن تتوقف الأسلحة عن إطلاق النار في إسرائيل وفلسطين وفي جميع أنحاء المنطقة، وأن يتوقف قتل الناس، وأن يتم إطلاق سراح الرهائن، وأن تتم مساعدة الجرحى وأن تصل المساعدات إلى المحتاجين.
قبل عشر سنوات، هنا في عمان، قال البابا فرنسيس: “لنطلب من الروح القدس أن يعد قلوبنا للقاء إخوتنا وأخواتنا، حتى نتمكن من التغلب على اختلافاتنا المتجذرة في التفكير السياسي، واللغة، والثقافة، والدين. دعونا نطلب منه أن يدهننا كلّ كياننا بزيت رحمته، الذي يشفي الجراح الناجمة عن الأخطاء، وسوء الفهم، والنزاعات. ولنطلب منه نعمة أن يقودنا، بتواضع ووداعه على الدروب المتطلبة والخصبة للبث عن السلام”. آمين