(عظة قداس مار مارون – 2024)
هل ينتظم الموارنة؟
أيها الإخوة والأخوات الأحباء،
نحتفلُ وإياكُم بعيد أبينا القديس مارون، تلك حبّة الحنطة التي زرعها اللّه في الكَنيسَة، في أنحاء قورش. فَنَمَت وأخرجَت حَبّاً كثيراً. لقَد عَلَّمَ مار مارون ما عاش فصارَ قُدوَةً ومَدرَسَةً. وسارَ شَعبٌ على خُطاه وحَمِلَ إسمُ بَيتَ مارون. تَخَلّى مار مارون بِطَريقَتِهِ النُسكِيَّة وتَجَرَّدَ عَن حُطامِ الدُنيا فَتَحَلّى وتجَلّى وارتَقى. وكُلُّ مَن يَقتَفي أَثَرَهُ ويَتَخَلّى، يَرتقي ويَلتَفي معَ رَبِّه ومَعَ إِخوَتِه. وفي الإرتقاء واللِّقاءِ نَكونُ واحداً في الكَثرَة وعِلامَةً لِتَحقيقِ رَغبَةِ رَبَنا وصَلاتِه بِحَسَبِ إِنجيل يوحنا ” إِجعَلهُم كُلُّهُم واحدا “. وفي الوحدَةِ واللّقاء والتَضامُن تَضييقٌ لِلإختلاف وتَوسيعٌ لِلمُشتَرَك. نَتَشَارَكُ في مواجَهَةِ المِحَنِ وصُعوباتِ الحَياةِ معاً. فَفي شَرقٍ يُعاني اليَومَ مِن مَرَضٍ عُضال، هو مَرَضُ إلغاءِ مَن لا يُشبِهُنَا، نَرجو أَن يَكونَ إنجيلُ هذا العيد حامِلاً إِلَينا رِسالَةَ رَجاءٍ لِلثَباتِ على الإِيمان والحِفاظِ على الهويّة، لا تَعَصُّبَاً وانغِلاقَاً، بَل أَمانَةً لِروحانيَّةِ مار مارون وكَنيسَتِه ولِتُراثِ الآباءِ والأَجداد. والسَبيلُ إلى ذلِكَ هو الإنفِتاح على الآخَر وتَعزيزُ روح التَضامُن ونَبذِ الشَرذَمَة. نرجو أن يَكونَ العيدُ هذِه السَنَة حاملاً الأملَ ببشرى المصالحة والسلام، وقيامةَ الوطن من كبوته. إنَّنَا نضرعُ إلى الله، بشفاعة أبينا القديس مارون، أن ينيرَ منا العقول والبصائر، ويستنهضَ فينا قيمَ الأخوّة والتضامن، لنستوحي أصالة التاريخ والتراث، فننتظم في قافلةِ مارون وابناء مارون ويوحنا مارون والآباء القديسين الذين أَسَّسوا وبنوا لنا هذا الوطن الحبيب لبنان، فلا نخجل مُستقبَلاً من مُساءَلَةِ الأولاد والأحفاد: ماذا فعلتم بلبنان!
1-يقول لنا بولس الرسول في رسائله :”إِختبروا أَنفسَكُم وعالجوها”. فهل نعتبرُ مما نسمع؟ انطلاقًا من روحانية مارون الإنجيلية : لا حياةَ دون موت، ولا قيامةَ دون صليب، لا راحةَ دون تعب، ولا قوَّةَ دونَ توحيدِ كلمة ورصِّ صفوف، ما عسانا نقول اليوم؟ هل نستعيدُ كلامَ السيدِ المسيح ونستطرِدُ فيه قائلين: ماذا يُفيدُ الموارنة إن ربحوا العالمَ كُلَّه وخَسِروا وَطنَهم؟ يقول لنا السيد المسيح:” كلُّ مملكةٍ تنقَسِمُ على نفسِها تخرَب، وكلُّ مدينةٍ أو بيتٍ ينقَسِمُ على نفسِه لا يثبُت” (متى 12 :25). فهل أصبحنا كالجيادِ في مَيدانِ سباقِ الخيل تُحَلِّقُ حين تنفَرِدُ، وتَلتَبِطُ فيما بينها حين تجتمع؟ أم أنَنا اليومَ متواجدون أمامَ حفلةِ مُصارَعةٍ قاتِلَة؟ هل نستعيدُ مشهدَ شمشون”عَلَيَّ وعلى أعدائي يارب”؟
2-إن الموارنة عبرَ التاريخ – بحسب تعبير أحدِ المؤَرخين – “تمكَّنوا عَبرَ العصور من المحافظة على هُويَتِهم التاريخية عن طريقِ الثباتِ في الموقف، والكفاحِ المستمّر ضدَّ الجُور، وَالتَعَلُّمِ من الأخطاء، والحكمةِ في انتقاء الأصدقاء، والاستعدادِ للتفاهمِ مع الغير، والوفاءِ لكلِ مَن مدَّ إليهم يومًا يدَ المُساعَدة ….. تمَكَّنُوا في الوقتِ ذاته من المحافظةِ على حقِّ الإنسان في الحرّية والعيشِ الكريم، ومن المساهَمةِ في خلقِ وطنٍ يَضمَنُ هذا الحقَ لأبنائه ….” (د.كمال الصليبي). رسالةُ الموارنة، هذه، هي دعوةٌ إلى الحَدِّ الأدنى من الإنتظامِ الواعي، والإستمرارِ في حملِ رسالة الحوار والتعاون بين الحضارات والأديان نموذجًا للشرق والغرب.
3-اعتبرَ البابا القديس يوحنا بولس الثاني أنَّ التَطَلُّعَ إلى المصالحةِ والسلام نابعٌ من طبيعَةِ الإنسان، ونَجِدُه لدى مختلَفِ الأديان. وهو تَطَلُّعٌ تُعَبِّرُ عنه الرغبةَ في النظامِ والصَفاء، ووَضعِ الذات في تَصَرُّفِ الغير، للتعاونِ والمشاركة القائِمَين على الاحترامِ المُتبادَل. وهذه القيمُ تقضي بتضامُنِ الجميع على اختلافِ أوضاعِهم ومسؤولياتِهم أن يشهدوا للسلام ويلتزموا المصالحة. أما قِوَامُ كلِّ مُصالحةٍ وسلامٍ في المجتمعات والأوطانُ فهي “الحقيقةُ والعدالة والمحبة والحرية” (يوحنا الثالث والعشرين). إنها مقوماتُ مشروعٍ يتناوَلُ كلَّ الحياة، ويدومُ ما دامتِ الحياة، وَيجعَلُ من كلِّ إنسان مسؤولاً عن ذاته وعن أخيه.
4-لبنانُ هو بلدُ التعدّدية والثقافات والحضارات من حيثُ التاريخِ والبُنيَةِ والسِمات. وأظهرَ لبنانُ أنَّ التعدّديةَ فيه لم تكن يومًا إنغلاقًا على الذات، بل وسيلةً للحفاظِ على الهُوية والخصوصية، بكرامَةٍ جذَّابة، جَعلَت منه وطنَ الرسالة. فهل صعبٌ علينا اليومَ اعتمادَ الحوارَ والمشاركةَ في غَمرَةِ المآسي والانقسامات المُستَحدَثة؟ إنَّ المصالحةَ والوحدةَ الوطنية هي وليدةُ الحوار. وما كانتِ المصالحةُ يومًا تَحجيمًا للآخر، ولا اعترافًا قَسريًا به، ولا احتواءً له، ولا هَيمَنةً بل تعبيراً عن توافُقٍ، بُغيةَ التعاونِ الصادق بين أفرادِ عائلاتِ الوطنِ الواحد.
5-في رسالته السنوية بمناسبةِ اليوم العالمي الثلاثين للسلام، رَكَّزَ قداسةُ البابا يوحنا-بولس الثاني على السلامِ المشروطِ بالغفران. وهذا يَعني أنه لا سلامَ ولا مُصالحة دون صَفحٍ وغفران. ومصالحتُنا في لبنان ليسَت مُستحيلة على الرغم مما تَكَدَّسَ وراءَنا من خُبُراتٍ مُرَّة وانقساماتٍ تُمعِنُ شرذَمَةً بينَ أهلِ البيتِ الواحد. ولا بُدَّ مِنَ التَذكير بِجوابِ السيدِ المسيح على سؤالٍ طرحَهُ عليه بطرس، بقوله:” كم مرّة يخطأ إليّ أخي وأغفِر لَهُ؟ أإِلى سبعِ مرّات؟ فكان جواب يسوع واضحًا صريحًا لا يَقبَلُ الجَدل:” لا سبعَ مرات، بل سبعين مرَّةٍ سبعَ مرّات” أي إلى ما لا نهاية له ….. ولا عَجب، أفَلَيسَتِ المحبةُ هي شعارُ المسيحيين الملتزمين إيمانَهُم المسيحي؟ ”
6-أيها الأحباء ، كُلُّنا يَعلَم أن انتهاكَ حقوقِ الإنسانِ هو بمثابةِ جُرحٍ للضمير، وَرَدعُ المعتدي واجِب، والسلامُ في التضامن. لكنَّ هذه المبادىء لم يُؤخَذ بها، لسؤِ الطالع كما يجب، لذلك اتَّسَعت الهُوَّة بين الأفرقاء. إنَّ المجتمعَ الذي نعيشُ فيه لا يُشَجِّعُ على المصالحة لا بل إنَّهُ يَحُضُّ على ردِّ الكيلِ كَيلين، وهذا ما تقتضيه الكرامةُ والعنفوان في ظنِّ بعضِهم. وَفاتَهم أنَّ القدرَةَ على الصفحِ والغفران لدليلٌ كبيرٌ على قوَّةٍ أينَ منها القوَّة على الإنتقام. هناكَ قولٌ مأثور للقسيس الأميركي مارتن لوثركينغ :” يجبُ أن نُبقي على القُدرَةِ على الصفحِ وَنُنَميّها. ومَن لم يَقدِر على الصفح، لا يقدِرعلى المحبة …”. أجل إنَّ المصالحةَ لا تُبنى على العداءِ والقَهرِ والظُلم بل على التقاربِ والعدالة. لَيتَنا نعتبرُ من كلامِ بولسَ الرسول إلى أهلِ غلاطية :” إنَّ تمامَ الشريعة كُلِّها في هذه الكلمةِ الواحدة :”أَحبِب قَريبَك حُبَّكَ لِنَفسِكَ”. فإذا كنتم تَنهَشون وتأكُلونَ بَعضُكم بعضًا، فاحذَروا أن يَفنيَ بعضُكم بعضًا” (غل 5: 14 -15).
7-أيها الإخوة والأخوات،
عبثًا نَكونُ أَبناءَ مارون إِذا لَم نُحبَّ بَعضَنا ونُحِبَّ الوطنَ ، إذا كُنَّا لا نحبُّ المُواطِنينَ الساكنينَ فيه، المُقيمينَ على أرضِه. معًا نكتبُ تاريخَ لبنان، معًا نتقاسم حُلوَ الحياة ومُرَّها. ويدعو الإرشادُ الرسولي “رجاء جديد للبنان” المسيحيين…. أن يكونوا أوَّلَ شهودٍ للسلام، وفي مُقَدِّمَةِ صَانِعيه. وَإنجيلُ السلام دعوةٌ مُستَمِرَّة الى الغفرانِ والمصالحة…” (عدد 97). فهل نَعي ونلتَزِم؟ هَل مَن يأخذُ المبادرة وَيُغَلِّبُ المصلحةَ اللبنانية على المصالحِ الشخصية والفئويّة والخارجية؟ هل باستطاعةِ الموارنة صُنعَ الإستقلالِ الثالث فوقَ كُلِّ اعتبار؟ هل ينتظمُ الموارنة، ونحنُ أُمُّ الصَبي، فينتظم لبنان؟ أللّهمَ وطِّد فينا العزمَ والأمانة كي نصونَ إِرثَ الآباء والاجداد، لبنانَ الوطنِ والكيانِ والرسالة، بشفاعة أبينا مار مارون سائلينَهُ: “كُن في الضِيقاتِ مَلجانا واختُم بِالخَيرِ مَسعانا– آمين!
+أنطوان-نبيل العنداري
النائب البطريركي العام
على منطقة جونيه
المطران العنداري : علينا اليومَ اعتمادَ الحوارَ والمشاركةَ في غَمرَةِ المآسي والانقسامات المُستَحدَثة
