السفير يوسف صدقة
تواصل الموارنة مع الكرسي الرسولي، منذ أول بطريرك ماروني انطاكي، البطريرك يوحنا مارون. فكان هناك تواصل وانقطاع بسبب المواصلات والحروب التي عمّت في الشرق: من الفتح العربي إلى الحكم الفاطمي والمملوكي، وحكم الامبراطورية العثمانية للشرق منذ 1516. وعلى أثر دخول الصليبيين إلى الشرق، توقّفت العلاقة معهم، على أساس وحدة الدين، وفتح الصليبيون للموارنة طريق روما، مركز الكثلكة في العالم. وقد ترسّخت العلاقة مع الكرسي الرسولي في عهد البابا أنيوكنت الذي استدعى البطريرك ارميا العمشيتي (1206 – 1230) لحضور المجمع اللاتيراني الرابع، ومنحه درع التثبيت.
وبعد السفرة التاريخية إلى روما، تعززت العلاقة بين الكرسي الرسولي الروماني والطائفة المارونية، وفق ما تشير المناشير الحبرية والبراءات الروحية التي كان يوجّهها الباباوات إلى بطاركتهم.
وقد تلازم تاريخ المارونية مع تاريخ لبنان منذ أن وجد الموارنة في الجبل مرتع حرية وملجأ أمان، فكان لهم فيه الملاذ والمستقرّ حتى أمكن القول «المارونية ولبنان صنوان» كما يقول المؤرخ د. جوزيف أبو نهرا.
مهمة القاصد الرسولي الأب إليانو إلى الموارنة
قصد الأب اليانو اليسوعي الذي أرسله البابا GREGOIRE XIII ( 1585-1572) إلى البطريرك مخائيل الرزي سنة 1578، ثم سنة 1580، ليقف قداسته على أحوال الموارنة وحاجاتهم، وقد زار اليانو قنوبين مقر البطريركية واجتمع بالمطارنة، كما زار الرعايا المارونية، واطلع على حاجاتهم وعلى الكتب الطقسية. وقد ساعده على ذلك اتقانه العربية والسريانية بالاضافة إلى العبرية واللاتينية والايطالية. وقد لاحظ الأب اليانو أن بعض الكتب الطقسية تحتوي على تعاليم مخالفة لمعتقدات الكنيسة الرومانية، وقد نسبت الأخطاء إلى بعض النساخين من ذوي البدعة اليعقوبية، وقد طلب حذفها. وبعد عودته إلى روما، طلب من الكاردينال CARRAVA محامي وحامي الموارنة لدى الكرسي الرسولي، طبع الكتب الطقسية للموارنة في روما. كما طلب من قداسة البابا، فتح معهد في روما للموارنة، ليتمكنوا من تعلم اللغات والاطلاع على تعاليم وقوانين الكنيسة الكاثوليكية الجامعة، بحيث يعودون إلى لبنان مزودين بالعلم واللاهوت، ليساعدوا الشعب الماروني في نشر الثقافة والعلم والايمان الكاثوليكي القويم.
إنشاء المدرسة المارونية (1584 – 1592)
في عهد البطريرك الرزي، أرسِل عشرون تلميذاً إلى روما بناءً لطلب الأب اليانو للتعلم والتخرج في العلوم الكهنوتية عام 1584. قد خصّهم البابا GREGOIRE XIII بدار خاصة قرب كنيسة مار يوحنا المعمدان. رأى قداسة البابا أنّ تخصّص الدار بعد نموّ عدد التلامذة مع كنيستها للاحداث الدارسين، بحيث تدعى المدرسة المارونية. وقد عهد للرهبنة اليسوعية ادارة المدرسة وكان أول رئيس عيّن لها، الاب يوحنا BRUNO رفيق الأب اليانو في سفراته إلى لبنان، وقد بقي في رئاستها حتى عام 1590. وقد تضمن برنامج الدراسة: تعلّم اللغة اللاتينية والايطالية والعلوم الأدبية والرياضيات ثم الفلسفة واللاهوت، حيث تدوم الدراسة من 10 إلى 12 سنة. كما كان الطلاب يدرسون العربية والسريانية على أيدي آباء موارنة.
وقد اهتمّ تلامذة روما مع الكهنة الموارنة والرهبان اليسوعيين بنشر الكتب الطقسية المارونية بالسريانية. وقد طبع اول كتاب بالسريانية سنة 1585، وهو كتاب «الجنازات» وهو من أقدم الكتب التي طبعت بالسريانية.
قوانين وأنظمة المدرسة المارونية في روما
وضع مجمع انتشار الإيمان في الكرسي الرسولي، قوانين المدرسة المارونية في القرن السابع عشر، وكان الكاردينال CARRAVA حامي الموارنة قد وضع لها قانوناً عاماً مختصراً. وقد تضمن القانون الفصول التالية: الفصل الأول يتضمن خلاصة تأريخ إنشاء المدرسة المارونية بهمة البابا GREGOIRE XIII سنة 1583، والقصد من انشائها يتمثل بتعليم بعض أحداث الموارنة التقوى والعلوم، حتى إذا تخرجوا من روميه بكل الآداب الكهنوتية، يعودون إلى بلدهم، ويتولّون نشر الدين الكاثوليكي بين أهل ملتهم ومواطنيهم. وقد ذكر دور الكاردينال CARRAVA محامي الطائفة المارونية، ومساعيه الخيرة في إنجاح هذه المدرسة على الصعيد المادي والأدبي. وتضمنت الفصول الأخرى الواجبات المطلوبة من الطلاب، ومن الآباء اليسوعيين في أسس التعليم النظري والتطبيقي واللغات والفلسفة واللاهوت. وتبين أنّ قوانين المدرسة قد جدّد مضمونها في براءة البابا اوربانوس الثامن، التي أصدرها في 30 تموز 1625. وقد ترأس المدرسة في بداياتها الأولى الأب يوحنا برونو 1584- 1592.
وظل طلاب المدرسة على مر الزمن مدينين للدور الرائد للأب JUAN BAPTISTA ELIANO في انشاء المدرسة المارونية في روما.
بقي الأب يوحنا BRUNO في رئاسة المدرسة المارونية في مقرها الجديد من سنة 1584- 1590 وقد ساعده في تجاوز الصعوبات المالية والإدارية الكاردينال ANTONIO CARRAVA محامي الطائفة المارونية لدى الكرسي الرسولي، الذي اعتبر مشروع المدرسة كأكبر خدمة يؤديها للكنائس الشرقية ليعيد إلى الموارنة دورهم التاريخي والكنسي.
وكانت المدرسة الرومانية في روما ثمرة العلاقة الراسخة بين الكرسي الرسولي والموارنة، وقد ساهمت في تحديث وتنظيم الطائفة المارونية مدة طويلة من الزمن إلى حين اقفالها من قبل نابليون بونابرت.
كان تصرف نابليون المعادي للكرسي الرسولي والمؤسسات المسيحية، ولا سيما المدرسة المارونية في روما، قد سبب صدمة عميقة ونكسة في العلاقة بين الموارنة وفرنسا، والتي كانت المقصد والمدافع العنيد والأم الحنون، من زمن القديس لويس التاسع والملك لويس الرابع عشر الذي اعتبر الموارنة مواطنين فرنسيين.
لم ينقلب الموارنة على فرنسا، رغم تجنّي نابليون على أملاك المدرسة المارونية، هذا وقد لبّى تلاميذ المدرسة المارونية التي أقفلها– طلبه – ليكونوا مترجمين لجيشه في الشرق وليشرفوا على أعمال المطبعة الشرقية، التي جلبها من الكرسي الرسولي إلى مصر، فساهم طلاب المدرسة بصورة غير مباشرة في بسط النفوذ الفرنسي في الشرق.
استمرت البطريركية المارونية في ارسال الطلاب إلى روما رغم اغلاق المدرسة، وتمّ تعليم الطلاب في مدرسة البروباغندا التابعة للكرسي الرسولي حوالى 70 سنة (1822 – 1893) وكان عددهم يتراوح سنوياً بين الثلاثة وستة طلاب.
واجهت المدرسة المارونية عوائق سياحية وادارية ومالية لإعادة افتتاحها من جديد. وقد أعيد فتح المدرسة المارونية عام 1893 بمساعدة ودعم البابا ليون XIII وجهود المطران الياس الحويك، الذي أوفده البطريرك يوحنا الحاج إلى روما سنة 1890، فلم يترك باباً الّا وطرقه في فرنسا وايطاليا والنمسا في سبيل اعادة فتح المدرسة. فقاوم الصراع الفرنسي النمسوي – والفرنسي الايطالي ، وظلّ عنيداً في مواقفه، صلباً في عرض دور الطائفة المارونية وعلماء الموارنة في أوروبا.
وقد استمرت المدرسة في العمل حوالى نصف قرن ثم اضطرت إلى اغلاق أبوابها نهائياً، بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939.
بطاركة وعلماء المدرسة المارونية في روما
اعطت المدرسة المارونية العديد من البطاركة والمطارنة والكهنة اللامعين، فقد خرّجت علماء مميّزين ساهموا في مؤلفاتهم وترجماتهم في نهضة المعارف وانتشار العلم في لبنان والمشرق.
ومن أبرز هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر:
– انطونيوس الصهيوني ( كرم): من اهدن، حيث ذهب إلى روما عام 1583 وبعد عودته إلى لبنان حقق العديد من المؤلفات والتراجم منها: كتاب من الحساب والجبر. كتاب في الهندسة للعالم العربي احمد بن علي. ويعدّ من الأوائل الذين نشروا فلسفة ارسطو…
– سركيس الرزي: التحق بالمدرسة المارونية سنة 1584 وساهم في تأسيس أول مطبعة في لبنان عام 1610 في دير مار انطونيوس قزحيا، كما ساهم في طبع الكتب الطقسية في روما.
– جبرائيل الصهيوني: وهو من عائلة كرم في اهدن التحق بالمدرسة سنة 1584 وقد اعتبر من اشهر علماء عصره، عيّن أستاذاً في مدرسة الحكمة في روما وفي جامعة البندقية. طلبته MARIE DE MEDICIS ليعلّم اللغات الشرقية في COLLEGE DE FRANCE. ساهم الصهيوني في ترجمة ونشر الكتاب المقدس في عدة لغات، ومن أبرز المؤلفات التي تركها الصهيوني: قاموس عربي – لاتيني وهو الأول في أوروبا، وقد نشر في باريس عام 1632. العهود والمواثيق بين المسلمين والنصارى – باريس سنة 1820…
– ابراهيم الحاقلاني: التحق بمدرسة روما عام 1620 وقد عمل في خدمة الأمير فخر الدين الثاني وشارك في مفاوضاته مع دوق توسكانا، وقد عيّنه ممثلاً له لدى دوق توسكانا، علم اللغات الشرقية في جامعات ايطاليا وفرنسا، وقد ترك العديد من المؤلفات والترجمات…
– اسطفان الدويهي: من اهدن التحق بمدرسة روما عام 1641 وأصبح بطريركاً. وقد جدد الدويهي الكتب الطقسية المارونية من الصلوات إلى رتب القداس ورسم الكهنة والاساقفة وغيرها. وقد اشتهر الدويهي في كتاباته التاريخية «تاريخ الأزمنة» حيث شمل تاريخ الطائفة المارونية وتاريخ لبنان. وقد نشر اكثر من ثلاثين كتاباً في مختلف الحقول الكنسية والطقسية واللاهوتية.
أدت المدرسة المارونية في روما دوراً ريادياً في رفع ثقافة الاكليروس الماروني، والانفتاح والتعرّف على ثقافة الغرب، وتعريف حضارة الشرق إلى اوروبا: حمل تلامذة روما ارثهم الثقافي، فدرّسوا في جامعات ايطاليا وفرنسا واسبانيا وعلّموا اللغات الشرقية. فكان لهذا التفاعل الحضاري دور ريادي في التفاعل بين الشرق والغرب، وكان لطلاب المدرسة المارونية دور مهم في فتح المدارس في لبنان ومنها مدرسة عين ورقة. وقد رقي غالبيتهم من رتبة آباء إلى أساقفة ، فحملوا ريادة الحداثة للطائفة المارونية.
المراجع الرئيسية:
– الطائفة المارونية والرهبانية اليسوعية بين القرنين السادس والسابع عشر – الأب لويس شيخو
– تاريخ الموارنة – الأب بطرس ضو
– الإكليروس والملكية والسلطة د. جوزف أبو نهرا