ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الأوّل لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان “أنا خبز الحياة”.
استهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول في بداية تأملات الصوم هذه، ننطلق مجدّدًا من الحوار الذي دار بين يسوع والرسل في قيصرية فيليبس: “ولَمَّا وصَلَ يسوعُ إِلى نواحي قَيصَرِيَّةِ فيلِبُّس سأَلَ تَلاميذَه: “مَنِ ابنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاس؟”، فقالوا: “بَعْضُهم يقول: هو يوحَنَّا المَعمَدان، وبَعضُهمُ الآخَرُ يقول: هو إِيليَّا، وغيرُهم يقول: هو إِرْمِيا أَو أَحَدُ الأَنبِياء”. فقالَ لَهم: “ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟”. فأَجابَ سِمعانُ بُطرس: “أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ”. من هذا الحوار كله، يهمّنا، في هذه اللحظة، فقط وحصريًا سؤال يسوع الثاني: “ومَن أَنا في قَولِكم أَنتُم؟”، كسؤال موجّه هنا والآن إلى الذين يصغون إليه بشكل فردي، وشخصيّ. ولكي نقوم بهذا الفحص، سوف نطلب مساعدة الإنجيلي يوحنا. نجد في إنجيله سلسلة كاملة من تصريحات يسوع التي يكشف من خلالها عن رأيه في نفسه، وما يقوله عن نفسه: “أنا خبز الحياة”، “أنا هو نور العالم”… وغيرها. سنراجع معًا خمسة من هذه التصريحات وسنسأل أنفسنا في كل مرة عما إذا كان يمثل لنا حقًا ما يقول إنه هو وكيف يمكننا أن نجعله كذلك أكثر فأكثر.
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول لنبدأ بأول تصريح ليسوع، والذي نجده في الإنجيل الرابع، في الفصل السادس: “أنا خبز الحياة”، وسنتوقف أولاً عند سياق هذا التصريح. كان يسوع قد كثَّر أرغفة الشعير الخمسة والسمكتين لكي يُطعم خمسة آلاف رجل. ثم توارى عن الأنظار لكي يهرب من حماسة الشعب الذي كان يريد أن يجعله ملكاً. لكن الجموع بحثت عنه ووجدته عند الجانب الآخر من البحيرة. عند هذه النقطة يبدأ الخطاب الطويل الذي يحاول به يسوع أن يشرح “علامة الخبز”. هو يريد أن يوضح أن هناك خبزًا آخر يجب أن نبحث عنه، والخبز المادي، في الواقع، هو مجرّد “علامة” له. إنه الأسلوب نفسه الذي اتّبعه مع المرأة السامرية في الفصل الرابع من الإنجيل. هناك أراد يسوع أن يقود المرأة إلى اكتشاف ماء آخر، أبعد من الماء المادي الذي يروي العطش لفترة قصيرة فقط؛ وهنا يريد أن يقود الجمع لكي يبحث عن خبز آخر، مختلف عن الخبز المادي الذي يشبع ليوم واحد فقط. وللمرأة السامرية التي طلبت أن تحصل على ذلك الماء السرّي وتنتظر مجيء المسيح لتحصل عليه، يجيب يسوع: “أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ”. ويجيب الجمع الذي يسأل الآن نفس السؤال عن الخبز: “أنا خبز الحياة!”
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول لنسأل أنفسنا: كيف وأين نأكل خبز الحياة هذا؟ وكان جواب آباء الكنيسة: في “مكانين” أو بطريقتين: في السر وفي الكلمة، أي في الإفخارستيا وفي الكتاب المقدس. لا شك أن خبز الحياة يأتي إلينا من خلال كلمة الله، ولاسيما في كلمات يسوع في الإنجيل. ويذكرنا بذلك أيضًا رده على المجرب: “ليسَ بِالخُبزِ وَحدَه يَحيْا الإِنْسان بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله”. ولكن كيف لا نرى في خطاب يسوع في كفرناحوم أيضًا إشارة إلى الإفخارستيا؟ ويذكّر السياق بوليمة: إذ يتمُّ التحدّث عن الطعام والشراب، الأكل والشرب، الجسد والدم. والكلمات: “من لا يأكل جسدي ولا يشرب دمي…” تذكرنا بكلمات التأسيس (“خذوا كلوا هذا هو جسدي” و”خذوا اشربوا: هذا هو دمي”). وبالتالي إذا كنا نشهد في التفسير واللاهوت استقطابًا وأحيانًا تباينًا بين خبز الكلمة والخبز الإفخارستي، فإن خلاصتهما في الليتورجيا تُعاش دائمًا بسلام. منذ القدم، على سبيل المثال في القديس يوستينوس الشهيد، كان القداس يتضمّن وقفتين: ليتورجية الكلمة مع قراءات مأخوذة من العهد القديم و”مذكرات الرسل”، والليتورجية الإفخارستيّة مع التكريس والمناولة. أما اليوم فيمكننا أن نعود، كما كنت أقول، إلى الخلاصة الأصليّة بين الكلمة والسر. وفي هذا السياق علينا أن نقوم بخطوة إلى الأمام. وهذا الأمر لا يقوم على أن نحصر أكل جسد المسيح وشرب دمه في الكلمة وسر الإفخارستيا فقط، وإنما في تحقيقه في كل لحظة وجانب من حياة النعمة التي نعيشها.
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول عندما يكتب القديس بولس: “الحياة عندي هي المسيح”، فهو لا يفكر في لحظة معينة. بالنسبة له، المسيح هو حقًا، في جميع أساليب حضوره، خبز الحياة؛ ونحن نأكله في الإيمان والرجاء والمحبة، في الصلاة وفي كل شيء. إنَّ الإنسان قد خُلق من أجل الفرح، ولا يمكنه أن يعيش بدون فرح، أو بدون رجاء الفرح. الفرح هو خبز القلب. ويبحث بولس الرسول أيضًا عن الفرح الحقيقي – ويحث أتباعه على البحث عنه – في الرب يسوع المسيح ويقول: “إفرحوا في الرب دائما، أكرر القول: افرحوا”. يسوع هو خبز الحياة الأبدية، ليس فقط لما يقدمه، وإنما أيضًا – ولاسيما – لما هو عليه. الكلمة والسر هما الوسيلة، أما العيش به وفيه فهو الهدف: “كما أن الآب الحي أرسلني وأني أحيا بالآب فكذلك الذي يأكلني سيحيا بي”.
لذلك، أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول فإن كل خطاب يسوع يميل إلى توضيح ما هي الحياة التي يعطيها: لا حياة الجسد، بل حياة الروح، الحياة الأبدية. ولكنني لا أريد أن أواصل تفكيري في هذا السياق. إزاء الإنجيل، هناك دائمًا عمليتان يجب القيام بهما، مع احترام ترتيبهما بدقة: الاستئثار أولاً، ثم الاقتداء والتشبّه. لقد حصلنا حتى الآن على خبز الحياة بالإيمان، ونحن نقوم بذلك في كل مرة نتناول فيها. وبالتالي يتعلّق الأمر الآن في كيفية ترجمتها إلى ممارسة في حياتنا. ولكي نقوم بذلك، نسأل أنفسنا سؤالًا بسيطًا: كيف أصبح يسوع خبز الحياة لنا؟ لقد أعطانا هو نفسه الجواب في إنجيل يوحنا: “الحق الحق أقول لكم: إن حبة الحنطة التي تقع في الأرض إن لم تمت تبق وحدها. وإذا ماتت، أخرجت ثمرا كثيرًا”. ونحن نعرف جيداً ما تشير إليه صور الوقوع في الأرض. إن قصّة الآلام بأكملها موجودة فيها. وبالتالي علينا أن نحاول أن نرى ما تعنيه تلك الصور بالنسبة لنا. إنَّ يسوع في الواقع، من خلال صورة حبة الحنطة، لا يشير إلى مصيره الشخصي فحسب، بل إلى مصير كل واحد من تلاميذه الحقيقيين. ولا يمكن للمرء أن يسمع إلى الكلمات التي وجهها الأسقف إغناطيوس الأنطاكي إلى كنيسة روما دون أن يتأثر أو يتعجب، لرؤية ما يمكن لنعمة المسيح أن تفعله بخليقة بشرية: “دعوني أكون طعامًا للبهائم أستطيع من خلاله أن أصل إلى الله. أنا قمح الله و[يجب] أن أطحن بواسطة أسنان الوحوش لكي أُصبح خبز المسيح النقي. … صلوا إلى الرب من أجلي لكي أصبح من خلالهم ضحية لله. أنا لا أوصيكم كما فعل [بطرس وبولس]: لقد كانا رسولين، وأنا رجل محكوم عليه”.
تابع الكاردينال كانتالاميسا يقول ولكن للأسف يوجد اليوم في المجتمع نوع من الأسنان التي تطحن بلا رحمة، بقسوة أكثر من أسنان الوحوش التي تحدث عنها الشهيد القديس إغناطيوس. وهي أسنان وسائل الإعلام وما يسمى بالشبكات الاجتماعية. ليس عندما تُظهر تشوهات المجتمع أو الكنيسة (وهي في هذا تستحق كل الاحترام والتقدير!)، ولكن عندما تهاجم شخصًا ما بدافع التحيز، ببساطة لأنه لا ينتمي إلى جانبهم. بخبث وبنية هدّامة لا بناءة. ومسكين من ينتهي به الأمر اليوم في مفرمة اللحم هذه، سواء كان علمانيًا أو رجل دين! في هذه الحالة، من المشروع والضروري أن نؤكد أسبابنا في المحافل المناسبة، وإذا لم يكن ذلك ممكنا، أو تبين أنه لا فائدة منه، فلا يبقى للمؤمن إلا أن يتّحد بالمسيح المجلود والمكلّل بالشوك والذي بصقوا عليه. في الرسالة إلى العبرانيين نقرأ هذه الدعوة للمسيحيين الأوائل والتي يمكنها أن تساعد في مناسبات مماثلة: “فكروا في ذاك الذي تحمل ما لقي من مخالفة الخاطئين، لكيلا تخور هممكم بضعف نفوسكم”. إنه أمر صعب ومؤلم، لاسيما إذا كان إذا طال عائلة المرء الطبيعية أو الرهبانية، لكن نعمة الله يمكنها أن تجعل – وكثيرًا ما قامت بذلك – كل هذا فرصة للتطهير والتقديس. يتعلق الأمر بأن نثق أنّه في النهاية، كما حدث مع يسوع، سينتصر الحق على الأكاذيب. وربما سينتصر بالصمت بشكل أفضل من أشكال الدفاع عن النفس الأكثر عدوانية.
أضاف واعظ القصر الرَّسوليّ يقول ومع ذلك، فإن الهدف النهائي المتمثل في أن نسمح بأن نُطحَن ليس ذات طبيعة زاهدة، بل سريّة؛ لا يفيدنا أن نميت أنفسنا بقدر ما نخلق الشركة. هذه هي الحقيقة التي رافقت التعليم الإفخارستي منذ الأيام الأولى للكنيسة. وهي موجودة في الديداكيه، كتاب من زمن الرسل. ويطوّر القديس أوغسطينوس هذا الموضوع بطريقة رائعة في إحدى خطاباته للشعب. فهو يوازي العملية التي تؤدي إلى تكوين الخبز الذي هو جسد المسيح الإفخارستي، والعملية التي تؤدي إلى تكوين جسده السري الذي هو الكنيسة. بين الجسدين – جسد الكنيسة الإفخارستي وجسدها السرِّي – ليس هناك تشابه فحسب، وإنما أيضًا تبعيّة واعتماد. وبفضل سر المسيح الفصحي الذي يعمل في الإفخارستيا، يمكننا أن نجد القوة لكي نسمح بأن نُطحن، يومًا بعد يوم، في ظروف الحياة الصغيرة (والكبيرة أحيانًا!).
وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الأوّل لزمن الصوم بالقول أختم بقصّة حدثت بالفعل، وهي مذكورة في كتاب بعنوان “الثمن الذي يجب دفعه”، كُتب باللغة الفرنسية وتمّت ترجمته إلى عدة لغات. وهي تساعدنا، أكثر من الخطب الطويلة، لكي نتنبّه للقوة الموجودة في عبارة يسوع “أنا هو” في الإنجيل، ولاسيما تلك التي علّقت عليها في هذا التأمل الأول. لبضعة عقود خلت، في إحدى دول الشرق الأوسط، كان هناك جنديان – أحدهما مسيحي والآخر غير مسيحي – يعملان معًا كحراس في مستودع للأسلحة. غالبًا ما كان المسيحي يأخذ، وأحيانًا في الليل، كتابًا صغيرًا ويقرأه، مثيرًا هكذا فضول وسخرية رفيقه. ذات ليلة، رأى هذا الأخير حلمًا. كان أمام نهر لا يستطيع عبوره، ورأى شخصًا يلفه النور يقول له: “لكي تعبره أنت تحتاج إلى خبز الحياة”. وإذ تأثَّر بالحلم، عند الصباح، دون أن يعرف السبب، طلب من رفيقه، لا بل أجبره على أن يعطيه كتابه السريِّ هذا. (كان هذا الإنجيل بالطبع). ففتحه وكان إنجيل يوحنا. فنصحه صديقه المسيحي بأن يبدأ بإنجيل متى الذي يسهل فهمه. لكنه أصرَّ بدون أن يعرف السبب. فقرأ كل شيء دفعة واحدة، إلى أن وصل إلى الفصل السادس. لكن من الجيد في هذه المرحلة أن نصغي إلى قصته مباشرة: “بعد أن وصلت إلى الفصل السادس، توقفت، إذ تأثَّرتُ بقوّة إحدى الجمل. للحظة أعتقدتُ أنني ضحية هلوسة، وأعدت نظري إلى الكتاب، عند النقطة التي توقفت فيها… كنت قد قرأت للتو هذه الكلمات: “… خبز الحياة”. الكلمات عينها التي سمعتها لساعات قليلة في حلمي. فقرأت مجدّدًا وببطء المقطع الذي قال فيه يسوع لتلاميذه: “أنا خبز الحياة. من يقبل إليَّ فلن يجوع”. في تلك اللحظة بالذات، انطلق شيء غير عادي في داخلي، مثل انفجار من الدفء والرفاهية… وكان لدي انطباع بأنني اختُطفتُ، وحملتني عاليًا قوة شعور لم أختبره من قبل، شغف عنيف، محبة لا حد لها لهذا الرجل يسوع الذي تتحدث عنه الأناجيل”. وما عانى منه هذا الشخص فيما بعد من أجل إيمانه يؤكد صحة خبرته. إنَّ كلمة الله لا تعمل دائمًا بهذه الطريقة المتفجرة، لكن المثل، يبين لنا ما هي القوة الإلهية الموجودة في عبارة المسيح “أنا هو” التي نعد بنعمة الله أن نعلق عليها في هذا الصوم الكبير.