ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، مساء الأحد، قداس منتصف ليلة عيد الميلاد المجيد في كنيسة القديسة كاترينا، المحاذية لكنيسة المهد في بيت لحم. وشارك في القداس موفد البابا فرنسيس الشخصي للتضامن مع الأرض المقدسة الكاردينال كونراد كراييفسكي، ولفيف من الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات، وشخصيات رسميّة ومؤمنين.
وفيما يلي النص الكامل لعظة الكاردينال بيتسابالا:
سلام المسيح معكم جميعًا،
في هذه الليلة أود أن أكون صوتًا للمشاعر الدفينة، التي تعصف بنا جميعا ونجد صداها في الإنجيل الذي تلي على مسامعنا: “لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ” (لوقا 2: 7). كما حدث مع مريم ويوسف كذلك يحدث معنا، يبدو أنه لا يوجد موضع أو حيّز للميلاد. لقد داهمنا شعور أليم، منذ أيام كثيرة، بأنه لا يوجد مكان هذا العام لبشرى الفرح والسلام التي أعلنتها الملائكة لرعاة بيت لحم في هذه الليلة المقدسة وعلى بعد أمتار قليلة من هنا.
في هذه اللحظة لا يسعنا إلا أن نفكر في كل أولئك الذين تشرّدوا بسبب الحرب وتُركوا وحدهم، مجردين من أي شيء، وقد تجرّعوا مرارة الفراق وكأس الألم. أَذكُر الجميع، دون تمييز، الفلسطينيين والاسرائيليين، وجميع المتضرّرين من هذه الحرب، والذين هم في حالة حداد وبكاء منتظرين بادرة مودّة وكلمة دفء. في هذه الليلة أتذكر الرهائن المخطوفين. أتذكر الأسرى الذين يقبعون في السجون دون محاكمة. أفكّر على وجه التحديد في أهل غزة وفي المليونين من سكانها. إن عبارة “لم يَكُنْ لَهُما مَوضِع” تعبّر جيدا عن حالتهم المعروفة اليوم للجميع وعن معاناتهم الصارخة التي لا تتوقف عن مناشدة العالم بأكمله. ليس لأحد منهم مكان آمن، منزلاً كان أو سقفا، وهم محرومون من أساسيات الحياة، جائعون ومعرّضون لأعمال عنف لا تفسّر. يبدو أنه لا يوجد مكان لهم ليس فقط من الناحية امادية، ولكن أيضا في أذهان أولئك الذين يقرّرون مصائر الشعوب. يعيش الشعب الفلسطيني هذا الوضع منذ فترة طويلة جدا، وبالرغم من أنه يعيش على أرضه، يقال عنه باستمرار: “ليس له موضع”، وينتظر منذ عقود أن يجد المجتمع الدولي حلا ينهي الاحتلال، الذي يعيش مكرها تحت نيره، متحملا نتائجه. يبدو لي اليوم أن الجميع منغلق وراء ألمه. الكراهية والاستياء وروح الانتقام تحتلّ مساحة كبيرة في قلبه ولا تترك مجالا لوجود الآخر. ومع ذلك، فإن وجود الآخر ضروري لنا. لأن عيد الميلاد يقوم تحديدا على حقيقة أن الله جعل نفسه حاضراً بشريا وفتح قلبنا لرؤية العالم من حولنا بمنظور جديد.
لا يعني أن العالم كان دائمًا مضيافًا نحو المسيح: وليس جديدا علينا القول بأنه لم يبق في ثقافتنا الاستهلاكية والأنانية، أثر كبير للإيمان المسيحي. ولكن في هذا العام، هنا بالتحديد، لا بل وفي العالم بأسره، يبدو أن عجيج السلاح
وبكاء الأطفال ومعاناة اللاجئين وصراخ الفقراء ودموع العائلات الثكلى تجعل موسيقى ترانيمنا نشازا، وفرحتنا صعبة المنال، وكلماتنا بلاغة جوفاء.
لنكن واضحين: إن مجيء المسيح إلى عالمنا قد فتح لنا وللجميع “طريق الخلاص الأبدي” الذي لن يتمكن أي شيء أو أيّ أحدٍ من إغلاقه مرّة أخرى. إن إيمان كنيسة الله ورجاءها ومحبتها لن تقهر لإنها تستند على وعد الرب الأمين، ولا ترتبط بالأزمنة المتغيرة ولا بالظروف المعاكسة التي تحيط بنا.
من الواضح بنفس القدر أننا نكافح، خاصة اليوم وهنا، لإيجاد مكان للميلاد في أرضنا وحياتنا وقلوبنا. وهذه الطريق، التي شقّها السيد المسيح، معرضة للاندثار بين الشوارع التي دمّرتها الحرب وبين ركام وأنقاض المنازل المهجورة. قد يكون قلبنا المثقل بالأحزان غير قادر على أن “يتناغم” مع الميلاد. فالألم الكثير، وخيبة الأمل المرّة، والوعود الكثيرة والمنقوضة تغزو قلبنا حيث من المفروض أن تتردّد كلمات إنجيل عيد الميلاد وتلهم أفعالا وسلوكياتٍ تصنع السلام وتنعش الحياة.
دعونا نسأل أنفسنا: أين هو الميلاد هذا العام؟ وأين نبحث عن المخلّص؟ أين يمكن للطفل الفادي أن يولد، عندما يبدو أنه لا موضع له في عالمنا؟
كان هذا هو السؤال نفسه الذي طرحه كل من مريم ويوسف حينما واجها صعوبة إيجاد مأوى لهما في تلك الليلة. كان هذا أيضا سؤال الرعاة عندما بحثوا عن الطفل. وكان سؤال المجوس عندما تبعوا النجم. وهو سؤال الكنيسة في كل مرّة تتيهُ في الطريق. وهذا سؤالنا هذه الليلة: أين مكان الميلاد اليوم؟
الملائكة هم أصحاب الجواب. في تلك الليلة، وفي كلّ ليلة، يجد الله دائمًا مكانًا لميلاده، حتى بالنسبة لنا، هنا، واليوم، نحن على يقين، على الرغم من كل شيء، ووسط هذه الظروف المأساوية، بأن الله قادر على ان يجد مكاناً حتى في أشد القلوب قساوة.
مكان الميلاد هو أولا وقبل كل شيء لدى الله. يولد المسيح في البدء من قلب الآب الرحيم. حبّه اللامتناهي والذي لا ينضب يلدُ الابن منذ الأزل وإلى الأبد ويعطيه لنا في الزمن، وأيضا في هذا الزمن. إرادته الصالحة والمقدّسة هي التي قرّرت خلاص الإنسان. “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. فَإِنَّ اللهَ لَمْ يُرْسِلِ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ الْعَالَمُ بِهِ” (يو 3: 16-17). في ظل هذه الظروف، إذا أردنا إعادة اكتشاف فرح الميلاد الحقيقي، وإذا أردنا مقابلة المخلص، وجب علينا، نحن، والكنيسة بأكملها، أن نعود إلى الله، وإلى محبّته. لنترك جانبا التفسيرات الاجتماعية والسياسية، ولنقرّ بأن أساس العنف واضطهاد الآخر يكمن في نسيان الله وتزييف صورته وتوظيف الدين والعلاقة مع الله لمآرب خاصة، كما يحدث في كثير من الأحيان في أرضنا المقدسة. لا يستطيع أحد أن يدعو الله “أبا” وهو لا يستطيع أن يدعو الإنسان”أخا”. وبالأحرى لا يمكن للإنسان أن يعيش الأخوة مع أخيه الإنسان إذا لم يعد إلى الإله الحقيقي من خلال الاعتراف به أبا محبّا للجميع. إذا لم نجد الله في حياتنا، سوف نفقد حتما طريق الميلاد ونجد أنفسنا وحدنا نطوف في الليل دون هدف، فريسةً لغرائز الأنانية والعدوانية.
إن جواب “نعم” الذي صدر عن مريم ويوسف هو أيضًا مكان الميلاد. إن طاعتهما وأمانتهما هما البيت التي جاء الابن ليسكن فيه. إن إرادة الله ليست سلطة مستبدة، بل محبّة لا تكشف عن قوتها إلا إذا تقبّلناها بحرية وسخاء وأمانة. والحرية الحقيقية ليست مزاجية، بل مسؤولية حانية تهتمّ بحياتنا وبحياة الآخرين. إن ابن الله، المولود من الآب، يدخل إلى الزمن من باب الحرية الإنسانية. وأينما يقول رجل وامرأة “نعم” لله، يكمن الميلاد! وحيثما يضع الإنسان حياته في خدمة السلام الآتي من العلاء، وليس لرعاية مصالح خاصة، هناك يولد الابن من جديد. لذا، إذا أردنا أن يكون هناك ميلاد، حتى في أوقات الحرب، علينا جميعًا أن نكثر من مبادرات الأخوة والسلام، وتقبّل الآخر، والمغفرة والمصالحة. وأقول أكثر من ذلك: يجب علينا جميعا، بدءا من ذاتي ومن أولئك الذين، مثلي، يتحملون مسؤولية القيادة والتوجيه الاجتماعي والسياسي والديني، أن نلتزم بخلق عقلية “القبول” ضد استراتيجية “الرفض”. إن قول نعم للخير، نعم للسلام، نعم للحوار، نعم للآخرين يجب ألا يكون مجرّد خطاب، بل التزاما واعيا ومسؤولا، ومستعدا لخلق مساحات جديدة، ليس احتلالها، ولإيجاد مكان للآخر وليس إنكاره. لقد أصبح الميلاد ممكنًا بفضل المساحة التي قدّمها يوسف ومريم لله وللطفل الذي جاء منه. لن يكون الأمر مختلفًا بالنسبة للعدالة والسلام: لن تكون هناك عدالة، ولن يأتي السلام بدون المساحة التي نفتحها للآخرين بقبولنا السخي وجاهزيتنا للخدمة.
ولم يكتمل عيد الميلاد بدون الرعاة. حتى سهرهم في الليل مذكور في الإنجيل. وهم أول من بحثوا عن الطفل ووجدوه. لا يسهب الإنجيلي لوقا في الحديث عن حالتهم الاجتماعية بقدر ما يتطرق إلى حالتهم النفسية. لقد كان الرعاة في تلك الليلة، أشخاصًا متنبّهين، قنوعين بما هو ضروري للحياة، قادرين على التحرّك، منفتحين لكل ما هو جديد، بعيدين عن الحسابات والقياسات المعقدة، وبالتالي جاهزين لاستقبال بشرى الميلاد. في وقت يتّسم حتمًا باليأس والكراهية والغضب والاكتئاب، نحتاج إلى مسيحيين مثلهم كي يتسنى موضع للميلاد! وأتوجه الآن إلى أبرشيتي الحبيبة، إلى كهنتها، إلى الإكليريكيين، إلى الرهبان والراهبات، إلى الرجال والنساء، إلى جميع الفعاليات الرعوية ومؤسساتنا الكنسية. أشعر بواجب تذكيركم بأننا ورثة هؤلاء الرعاة. أعلم جيدًا مدى صعوبة البقاء يقظين، جاهزين لقبول الآخر وللمسامحة، ومستعدين للبدء دائمًا من جديد، والعودة إلى الطريق، حتى لو طغى الليل. بهذه الطريقة فقط سنجد الطفل. هذه القدوة الحسنة وحدها تضمن أن تتوفر للميلاد مساحة في هذا الزمان وعلى هذه الأرض، التي يشع نورها إلى جميع أنحاء العالم. نحن هنا ونعتزم أن نبقى ورثة الرعاة. وبالرغم من عيشنا ظروفا سيئة وهشة،
ليتنا نكون من عداد الذين وجدوا الطفل، واختبروا نعمته وتعزيته، ويريدون أن يعلنوا للجميع أن الميلاد، اليوم كما بالأمس، هو أمرٌ حقيقي وملموس.
أيها الأعزاء، لديّ رغبة في القلب تتحول إلى صلاة: فلتكن رغبتنا في فعل الخير، من خلال كلمة “نعم” لله نقولها بكل وعي وسخاء، وليكن التزامنا بالمحبّة والخدمة، هي المساحة التي يمكن أن يولدَ فيها المسيح، مرّة تلو المرّة!
أطلب لنفسي أولا، ثمّ لكنيسة الأرض المقدسة وللكنيسة جمعاء: أن نكون بيتًا للجميع، ومساحة مصالحة ومغفرة للباحثين عن الفرح والسلام! أخاطب جميع كنائس العالم، التي تتطلع إلينا في هذه اللحظة، ليس فقط للتأمل في سرّ بيت لحم، بل أيضًا لمواساتنا في هذه الحرب المأساوية: احملوا لشعوبكم وقادتها رسالة “نعم” يقولونها لله، وتضرعوا لخير شعوبنا، كي تتوقف الأعمال العدائية، وكي يتمكن الجميع من أن ينعموا بالسلام داخل بيوتهم.
أصلي كي يولد المسيح من جديد في قلوب حكّام الأمم وقادتها، فيلهمهم قول “نعم” التي جعلت المسيح صديقاً وأخاً للجميع، فيعملوا بجدّية لوقف هذه الحرب، وأكثر من ذلك من أجل استئناف الحوار المؤدي إلى إيجاد حلول عادلة وكريمة ونهائية لشعبنا. إن مأساة هذه اللحظة، في الواقع، تفيدنا بأن الوقت لم يعد يسمح بالحلول قصيرة المدى، وللتأجيل والتنظير، وحان الوقت لنقول، هنا والآن، كلمة حقيقة، واضحة ونهائية تعالج الصراع القائم من جذوره، وتزيل مسبباته العميقة، وتفتح آفاقًا جديدة من الصفاء والعدالة للجميع، للأرض المقدسة، لا بل ولمنطقتنا بأكملها، التي تتأثر أيضًا بهذا الصراع. إن كلمات “احتلال” و”أمن” والعديد من الكلمات الأخرى المشابهة التي هيمنت على خطاباتنا لفترة طويلة يجب تعزيزها بكلمتي ثقة واحترام، لأن هذا هو ما نريد أن يكون عليه مستقبل هذه الأرض، وهذا وحده هو الذي سيضمن الاستقرار والسلام الحقيقيين.
ليولدِ المسيح من جديد في هذه الأرض، التي تخصّه وتخّصنا، ولتبدأ من هنا مسيرة إنجيل السلام للعالم أجمع! ليولد المسيح من جديد في قلب من يؤمن به، فيدفعه إلى إعطاء القدوة الحسنة وتأدية الرسالة، دون خوف من الليل ومن الموت! ولتلد أيضًا في قلب من لا يزال غير مؤمن، الرغبة في السلام والخير، والحقيقة والعدالة!
ليولد المسيح أيضًا في رعيتنا الصغير في غزة. أيها الأبناء الأعزاء، اعتدت أن أقضي معكم بضعة أيام قبل عيد الميلاد. هذا العام لم أتمكن من ذلك، لكننا لن نتخلى عنكم. أنتم في قلبنا، والجماعة المسيحية بأجمعها في الأراضي المقدسة وفي جميع أنحاء العالم تلتف حولكم. نرجو أن تشعروا قدر الإمكان بدفء قربنا ومحبتنا.
أخيرًا، ليولد المسيح من جديد في قلوب الجميع، كي يشعروا بفرحة العيد! عيد ميلاد مجيد!
عيد ميلاد مجيد! ولدا المسيح! هللويا