ترأس صاحب الغبطة البطريرك يوسف العبسي الكلي الطوبى والجزيل الوقار بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك، الليترجيا الإلهية المقدسة، أمس الأحد 25 شباط 2024 – الأحد الثاني من الصوم، أحد الذخائر المقدسة والقديس غريغوريوس بالاماس- وذلك في كاتدرائية سيدة النياح – حارة الزيتون
وجاء في عظة صاحب الغبطة
“ما بين المخلّع والمسيح”
( مرقس 2/1-12 )
حادثة المخلّع كما رواها مرقس تنطبق علينا. فنحن غالبًا ما نكون مثل المخلّع، مخلّعين في أنفسنا من كثرة خطايانا، ومخلَّعين في مجتمعنا من كثرة المشاكل، ومخلَّعين في جسدنا من كثرة الأمراض، في حاجة إلى شفاء روحيّ وجسديّ، غيرَ قادرين على الاقتراب من يسوع إمّا لعلّة وعاهة فينا، وإمّا لعقبة خارجيّة، فنستسلم لليأس ونروح نبتعد أكثر فأكثر عن المسيح.
إلاّ أنّنا نحن أيضًا مثل المخلّع قادرون على الاقتراب من يسوع إن كانت لنا النيّة والإرادة، وليس من عقبة، مهما كانت كبيرة، تصدّنا عن ذلك. علينا عندئذ أن يكون لنا إيمان مثلُ إيمان المخلَّع، وأن نبتكر، مثلَ المخلّع، ومهما كانت الظروف، وسائل وطرقًا تقودنا إليه، وما أكثرها. وفي سعينا وجهدنا للاقتراب من السيّد المسيح لابدّ لنا من الاتّكال على الروح القدس، فإنّه مثل الرجال الذين حملوا المخلّع يحملنا بنعمته إلى المسيح ويقرّبنا منه .
إنّما في تقرّبنا من السيّد المسيح ينبغي علينا أن ندرك ونؤمن بأنّه ابن الله المخلّص القادر وحده أن يشفينا ويغفر لنا. وهذا ما تصدّقه رسالة اليوم. وليس المسيح بالقادر وحسب إنّما يرغب في خلاصنا بل يريد خلاصنا. ولئن كان يصنع العجائب فبهذه الصفة. ونحن نذكر كيف سأل يومّا تلاميذه: من تقول الناس إنّي أنا هو ؟ فأجابه الرسل: يقولون إنّك إيليّا أو يوحنّا أو نبيّ من الأنبياء. فلم يرق له هذا الجواب، فقال لهم: وأنتم ماذا تقولون ؟ فأجاب بطرس: إنّك أنت ابن الله الحيّ .
في هذا الأحد الثاني من زمن الصوم تكرّم كنيستنا الملكيّة ذخائر القدّيسين. وتفيدنا مطالعتنا لسيرهم أنّ البعض منهم كانوا مثل المخلّع بعيدين عن الله ثمّ ما لبثوا، بفضل إرادتهم ونعمة الروح القدس، أن اهتدوا إلى المسيح بل صاروا قدّيسين، قديمًا وحديثًا، ومنهم الرسول بولس وأوغسطينس ومريم المصريّة وشارل دي فوكو. أجل فإنّ التقرّب من المسيح بل القداسة ليسا بمستحيلين . فالقداسة ليست في أن لا يخطأ الإنسان، إذ ليس من إنسان يحيا ولا يخطأ، كما نقول في صلوات الجنّاز، بل القداسة في أن يكون لدينا الاستعداد ألّا نعود إلى الخطيئة وفي أن نتوب إلى الله.
وتعلّمنا الكنيسة أيضًا في تكريمها لذخائر القدّيسين في زمن الصوم أنّ القداسة ليست من صنع الناس بل من صنع الله، أنّ القداسة موهبة من الروح القدس الذي يناله كلّ معتمد وممسوح باسم المسيح. إنّ هذا الروح القدّوس هو الذي يحوّل العمل الإنسانيّ إلى عمل إلهيّ، يحوّل ما نسمّيه بشريًّا فضيلة وبطولة إلى قداسة. إنّ القدّيسين هم أولئك الذين تحوّلوا بفعل الروح القدس إلى أشخاص يعيشون في الله. ليست القداسة في ممارسة شيء بل في الحياة مع الله. وليست القداسة شيئًا نكتسبه ونتعلّمه، بل هي شخص حيّ، هي الله الحيّ القدّوس نقتدي به إلى أن نصبح نظيره ونحيا فيه. فأن يكون الإنسان قدّيسًا يعني أن يكون في الله، أن يعيش حياة الثالوث المقدّس.
وتعلّمنا الكنيسة أيضًا أنّ الكنيسة هي الحاصلةُ على القداسة في الأساس والمنطلَق: “نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة”. وبتعبير آخر ليست الكنيسة مجموعةَ أفراد قدّيسين، بل هي التي تقدّس كلّ من ينتمي إليها بالمعموديّة بدمجه في جسد المسيح المتمثّل والمحقّق فيها. ليست الكنيسة مقدّسة لأنّ فيها أفرادًا قدّيسين، بل فيها أفراد قدّيسون لأنّها هي مقدّسة. نحن قدّيسون لأنّنا ننتمي إلى الكنيسة، إلى جسد المسيح الذي يقدّسه المسيح نفسه كما يقول بولس الرسول: “لقد بذل (المسيح) نفسه لأجلها (الكنيسة) ليقدّسها… [إذ كان يريد] أن يزفّها إلى نفسه كنيسة … مقدّسة” (أف 5: 26-27). لذلك فإنّ الكنيسة هي المؤهّلة أن تتكلّم عن القداسة وتفصل في أمورها.
زمن الصوم هو زمن الشفاء والغفرانِ بالعودة والتوبة إلى الله لننهض مع المسيح في القيامة. زمن الصوم هو زمن استنباط الوسائل والطرق التي تقودنا وتوصلنا إلى المسيح. إنّه ينتظرنا، وفي وسعنا أن نذهب إليه حين نشاء، من دون موعد، كما فعل المخلّع، فيترك الجموع والوعظ ويتخلّى حتّى عن الشريعة ويلتفت إلينا. وفي وسعنا الوصول إليه مهما نأت بنا المسافات. وعندما نبلغ إليه ونصير في حضرته فما أكثر ما نحصل عليه من نعم روحيّة وجسديّة، كما جرى للمخلّع، بل أكثر. فليس أكرم من الله فهو يعطي بدل الواحد ثلاثين وستّين ومئة. وعندما نلقاه ونعرفه سوف تكون صرختنا حتمًا كتلك التي أطلقتها الجموع التي عاينت شفاء المخلّع: ” ما رأينا قطّ مثل هذا “.
+ يوسف
الكنيسة الكاتدرائيّة، 25/02/2024