البابا فرنسيس: يعلمنا المجوس أن اللقاء مع الله يفتحنا على رجاء أكبر، يجعلنا نغير أسلوب حياتنا ونغير العالم

“نحن لا نجد الله الذي يأتي لزيارتنا من خلال التمسُّك ببعض النظريات الدينية الجميلة، وإنما فقط من خلال وضع ذواتنا في مسيرة، والبحث عن علامات حضوره في الواقع اليومي، ولاسيما، من خلال اللقاء بأجساد إخوتنا ولمسها” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي بمناسبة عيد ظهور الرب
احتفالا بعيد ظهور الرب ترأس قداسة البابا فرنسيس القداس الإلهي عند الساعة العاشرة من صباح اليوم السبت في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان. وتخللت الذبيحة الإلهية عظة للأب الأقدس قال فيها: انطلق المجوس في رحلة بحثًا عن الملك الذي ولد. إنهم صورة الشعوب التي تسير بحثًا عن الله، والغرباء الذين يأتي بهم الرب الآن إلى جبل قدسه، والبعيدين الذين يمكنهم الآن أن يسمعوا إعلان الخلاص، وجميع الضالين الذين يسمعون نداء صوت ودود. لأن الآن، في جسد طفل بيت لحم، تجلّى مجد الرب لجميع البشر و”كل بشر سيرى خلاص الله”.
تابع البابا فرنسيس يقول كانت عيون المجوس موجهة إلى السماء، وأقدامهم تسير على الأرض، وقلوبهم الساجدة في عبادة. أولًا، إنَّ عيون المجوس موجهة إلى السماء. يسكنهم الحنين إلى اللامتناهي وتنجذب أنظارهم إلى النجوم السماوية. هم لا يعيشون وهم ينظرون إلى أصابع أقدامهم، منطويين على أنفسهم، سجناء لأفق أرضي، ويجرُّون أنفسهم في الاستسلام أو التذمُّر. هم يرفعون رؤوسهم لكي ينتظروا نورًا ينير لهم معنى حياتهم، وخلاصًا يأتي من علو. وهكذا رأوا نجمًا يشرق، يسطع أكثر من جميع النجوم الأخرى، فجذبهم ووضعهم في مسيرة. هذا هو المفتاح الذي يفتح المعنى الحقيقي لوجودنا: إذا كنا نعيش في محيط الأشياء الأرضية الضيق، وإذا كنا نسير ورؤوسنا إلى الأسفل، رهائن لإخفاقاتنا وندمنا، وإذا كنا جائعين إلى الخيور والتعزيات الدنيوية بدلاً من أن نكون باحثين عن النور والحب، فإنَّ حياتنا ستنطفئ. وبالتالي يعلمنا المجوس، الذي هم غرباء ولم يلتقوا بيسوع بعد، أن ننظر إلى علو، وأن نوجه نظرنا نحو السماء، وأن نرفع أعيننا نحو الجبال من حيث سيأتينا العون، لأن معونتنا تأتي من عند الرب.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة والأخوات، لنوجّه أعيُننا نحو السماء! نحن بحاجة لأن تكون أنظارنا موجّهة إلى العلى، لكي نتعلّم أيضًا أن نرى الواقع من الأعلى. نحن بحاجة لذلك في مسيرة الحياة، لأن ترافقنا الصداقة مع الرب، ومحبته التي تعضدنا، ونور كلمته التي ترشدنا مثل نجم في الليل. نحن نحتاج لذلك في مسيرة الإيمان، لكي لا تصبح مجرّد مجموعة من الممارسات الدينية أو عادة خارجية، بل نارًا تشتعل في داخلنا، وتجعلنا نصبح باحثين شغوفين عن وجه الرب وشهودًا لإنجيله. نحن بحاجة لذلك في الكنيسة، حيث، بدلًا من أن نقسِّم أنفسنا على أساس أفكارنا، نحن مدعوون لكي نعيد الله إلى المحور. هو، وليس أفكارنا أو مشاريعنا. لننطلق مجدّدًا من الله، ولنجد فيه الشجاعة لكي لا نتوقّف أمام الصعوبات، والقوة لتخطّي العقبات، والفرح لكي نحيا في شركة ووئام.
تابع الحبر الأعظم يقول إنَّ أقدام المجوس تسير أيضاً على الأرض. لقد انطلقوا نحو أورشليم وكانوا يسألون: “أَينَ مَلِكُ اليهودِ الَّذي وُلِد؟ فقَد رأَينا نَجمَه في المَشرِق، فجِئْنا لِنَسجُدَ لَه”. لقد أعادهم النجم الذي يلمع في السماء لكي يسيروا على دروب الأرض؛ وإذ رفعوا رؤوسهم نحو العُلى وجدوا أنفسهم مدفوعين للنزول إلى الأسفل؛ وإذ كان يبحثون عن الله، وجدوا أنفسهم مدعوين لكي يجدوه في الإنسان، في طفل مضطجع في مذود، لأن الله اللامتناهي في الكبر قد أظهر نفسه في هذا الطفل الصغير جدًّا. أيها الإخوة والأخوات، لتكن أقدامنا في مسيرة على الأرض! إن عطيّة الإيمان لم تُعطى لنا لكي نُحدق النظر في السماء، وإنما لكي نسير على دروب العالم كشهود للإنجيل؛ والنور الذي ينير حياتنا، الرب يسوع، لم يُعطَ لنا فقط لكي نتعزى في ليالينا، وإنما لكي نفتح فُتحات نور في الظلام الدامس الذي يحيط بالعديد من المواقف الاجتماعية؛ نحن لا نجد الله الذي يأتي لزيارتنا من خلال التمسُّك ببعض النظريات الدينية الجميلة، وإنما فقط من خلال وضع ذواتنا في مسيرة، والبحث عن علامات حضوره في الواقع اليومي، ولاسيما، من خلال اللقاء بأجساد إخوتنا ولمسها. لقد بحث المجوس عن الله ووجدوا طفلاً. وهذا الأمر مهم: أن نلتقي بالله في الأجساد وفي الوجوه التي تمر بنا كل يوم، ولاسيما في تلك الأشدّ فقرًا. يعلمنا المجوس في الواقع، أن اللقاء مع الله يفتحنا على رجاء أكبر، يجعلنا نغير أسلوب حياتنا ونغير العالم؛ كما قال البابا بندكتس السادس عشر: “إذا غاب الرجاء الحقيقي، سنبحث عن السعادة في الثمالة، في الفائض، وفي الإفراط، وندمر أنفسنا والعالم. […] لهذا السبب، نحن بحاجة إلى أشخاص يكون لديهم رجاء كبير، ويتحلون بالتالي بالكثير من الشجاعة. شجاعة المجوس، الذين قاموا برحلة طويلة باتباعهم للنجم، والذين عرفوا كيف يركعون أمام طفل ويقدمون له هداياهم الثمينة”.
أضاف الأب الأقدس يقول أخيرًا، إنَّ قلوب المجوس تسجد في عبادة. كانوا ينظرون إلى النجم في السماء، ولكنهم لا يلجأون إلى عبادة منفصلة عن الأرض؛ بل انطلقوا في مسيرة، ولكنهم لم يهيموا مثل سائحين بلا هدف. بل وصلوا إلى بيت لحم، وعندما رأوا الطفل “جَثَوا له ساجِدين”. ثُمَّ فتَحوا حَقائِبَهم وأَهْدَوا إِليه ذَهبًا وبَخورًا ومُرًّا. “بهذه الهدايا السريّة يجعلوننا نعرف من هو الشخص الذي يعبدونه: بالذهب هم يعلنون أنه ملك، وبالبخور أنه إله، وبالمر أنه فانٍ”. ملك جاء لكي يخدمنا، وإله صار إنسانًا. أمام هذا السر، نحن مدعوون لكي نثني قلوبنا وركبنا للعبادة: فنعبد الله الذي يأتي في الصغر، والذي يسكن حياة بيوتنا الطبيعية، والذي يموت حبًّا بنا. الإله الذي فيما يظهر في وسع السماء بعلامات النجوم، يسمح لنا بأن نجده في ملجأ ضيق؛ ضعيفًا في جسد طفل، ومقمّطًا كطفل حديث الولادة، يعبده المجوس، ويهابه الأشرار. لنكتشف مجدّدًا طعم صلاة العبادة. ولنعترف بيسوع كإلهنا وربنا ولنعبده.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول أيها الإخوة والأخوات، على مثال المجوس، لنرفع أعيننا إلى السماء، ولننطلق في مسيرة للبحث عن الرب، ولنثنِ قلوبنا في العبادة. ولنطلب نعمة عدم فقدان الشجاعة أبدًا: الشجاعة لأن نكون باحثين عن الله، رجال ونساء رجاء، حالمين شجعان يحدِّقون في السماء ويسيرون على دروب العالم بشجاعة العبادة وشجاعة النظر إلى الرب الذي ينير كل إنسان.