“إذا عشنا، على مثال سمعان وحنّة، في الانتظار، وحافظنا على حياتنا الداخلية وفقًا للإنجيل، فسنعانق يسوع، نور الحياة ورجائها” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في عظته مترئسًا القداس الإلهي بمناسبة عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل واليوم العالمي الثامن والعشرين للحياة المكرّسة
بمناسبة عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل واليوم العالمي الثامن والعشرين للحياة المكرّسة ترأس قداسة البابا فرنسيس عصر الثلاثاء القداس الإلهي في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان وللمناسبة ألقى الأب الأقدس عظة قال فيها بينما كان الشّعب ينتظر خلاص الرّبّ، كان الأنبياء يُعلِنون مجيئه، كما يؤكّد النّبي ملاخي: “يَأتي فَجأَةً إِلى هَيكَلِه السَّيِّدُ الَّذي تَلتَمِسونَه، ومَلاكُ العَهدِ الَّذي تَرتَضونَ بِه. ها إِنَّه آتٍ”. إنَّ سمعان وحنِّة هما صورة ووجه هذا الانتظار. رَأَيَا الرّبّ يدخل إلى هيكله، وإذ أنارهما الرّوح القدس، عرفاه في الطّفل الذي كانت تحمله مريم بين ذراعيها. لقد كانا ينتظراه طيلة حياتهما: كان سمعان “رَجُلًا بارًّا تَقِيًّا، يَنتَظِرُ الفَرَجَ لإِسرائيل”؛ وكانت حنّة “لا تُفارِقُ الهَيكَل”.
تابع البابا فرنسيس يقول سيفيدنا أن ننظر إلى هذَين الشيخَين الصبورَين في الانتظار، والسّاهرَين في الرّوح، والمواظبَين على الصّلاة. لقد بقي قلباهما يَقظَين مثل شعلة متّقدة على الدوام. كانا متقدّمين في السّن ولكنهما كانا يملكان شباب القلب. ولم يسمحا للأيام بأن تُضعف قواهما، لأنّ أعينهما بقيت موجَّهة نحو الله في الانتظار. اختبرا في مسيرة حياتهما التعب وخيبات الأمل، لكنّهما لم يستسلما للهزيمة، ولم يفقدا الرجاء. وهكذا في تأمُّلهما في الطّفل، اعترفا أنّ الزّمان قد تمّ، وأن النّبوءة قد تحقّقت، والذي كانا يبحثان عنه ويتوقان إليه، مسيح الأمم، قد جاء. من خلال السهر في انتظار الرب، أصبحا قادرَين على قبوله في حداثة مجيئه. أيّها الإخوة والأخوات، إنَّ انتظار الله مهمّ لنا نحن أيضًا، ولمسيرتنا في الإيمان. إن الرب يزورنا يوميًّا، ويكلّمنا، ويظهر نفسه بطريقة غير متوقّعة، وسيأتي في نهاية الحياة والأزمنة. لذلك فهو يحثّنا على أن نبقى متيقظين، وعلى السهر والمثابرة في الانتظار. إنّ أسوأ ما يمكن أن يحدث لنا، في الواقع، هو أن نقع في “سبات الرّوح”: فينام قلبنا وتتخدّر نفسنا ونطرح الرجاء في زوايا اليأس والاستسلام المظلمة.
أضاف الأب الأقدس يقول أفكّر فيكم، أيّها الإخوة والأخوات المكرّسون، وفي العطيّة التي أنتم عليها؛ أفكّر في كلّ فردٍ منّا نحن مسيحيّو اليوم: هل ما زلنا قادرين على أن نعيش الانتظار؟ ألسنا منشغلين أحيانًا بأنفسنا، وبالأشياء، وبإيقاع الحياة اليومية المكثف، إلى درجة أننا ننسى الله الذي يأتي دائمًا؟ ألسنا ربما مأخوذين بأعمالنا الصالحة، ونخاطر بأن نحول الحياة الرهبانية والمسيحية إلى “أمور كثيرة علينا أن نقوم بها” ونهمل البحث اليومي عن الرب؟ ألا نخاطر أحيانًا بأن نخطّط حياتنا الشّخصيّة والجماعيّة بناءً على حسابات فرص النّجاح، بدلًا من أن نعزز بفرح وتواضع البَذْرَة الصّغيرة التي أوكلت إلينا، في صبر من يزرع دون أن يتوقّع شيئًا ومن يعرف أن ينتظر أزمنة الله ومفاجآته؟ لقد فقدنا أحيانًا هذه القدرة على الانتظار، وعلينا أن نعترف بذلك. وهذا الأمر يعتمد على عدة عوائق، أودّ أن أسلّط الضوء على اثنين منها.
الأوّل، تابع البابا يقول هو إهمالنا للحياة الدّاخليّة. هذا ما يحدث عندما يسود التّعب على الدهشة، وعندما تحلّ العادة محلّ الحماس، وعندما نفقد المثابرة في المسيرة الرّوحيّة، وعندما تُحوّلنا الخبرات السّلبيّة والصّراعات أو الثّمار التي يبدو لنا أنّها تأخّرت، إلى أشخاص كدرين يعيشون في مرارة. ليس من الجيد أن نجترَّ المرارة، لأنه في العائلة الرهبانيّة، كما هو الحال في كلِّ جماعة وعائلة، يُثقل الأشخاص الكدرين و”ذوي الوجوه المُعبِّسة” الأجواء. لذلك علينا أن نستعيد النعمة التي فقدناها، وأن نعود، من خلال حياة داخلية مكثفة، إلى روح التواضع الفرح والامتنان الصامت. هذا الأمر يتغذى من العبادة، من عمل الركبتين والقلب، من الصلاة الملموسة التي تكافح وتشفع، والقادرة على أن توقظ الشوق إلى الله، ذلك الحب الأولي، ودهشة اليوم الأول، وطعم الانتظار.
أما العائق الثاني، أضاف الحبر الأعظم يقول فهو التكيُّف مع نمط الحياة الدنيوي، الذي ينتهي به الأمر بأن يحلَّ محلَّ الإنجيل. إن عالمنا هو عالم يسير في كثير من الأحيان بسرعة كبيرة، ويبجِّل الـ “كلَّ شيء والآن”، ويُستنفد في النشاط ويسعى إلى طرد مخاوف الحياة وقلقها في المعابد الوثنية للنزعة الاستهلاكية أو في الترفيه بأي ثمن. في مثل هذا السياق، حيث يُنفى الصمت ويضيع، لا يكون الانتظار سهلاً، لأنه يتطلب موقفًا من السلبية السليمة، والشجاعة لكي نُبطئ سرعتنا، وألا نسمح للنشاطات بأن تستحوذ علينا، وأن نُفسح المجال في داخلنا لعمل الله، كما يعلِّمنا التصوف المسيحي. لنتنبَّه، إذًا، لكي لا يدخل روح العالم في جماعاتنا الرّهبانيّة، والحياة الكنسيّة، وفي مسيرة كلّ فردٍ منّا، وإلّا فلن نُثمر. إنَّ الحياة المسيحيّة والرّسالة الرّسوليّة تحتاجان إلى الانتظار، الذي إذ ينضج في الصّلاة والأمانة اليوميّة، يحرّرنا من أسطورة الفعّالية ومن هوس الإنتاج، ولا سيما من الادعاء بأنه يمكننا أن نحصر الله في فئاتنا، لأنّ الله يأتي على الدوام بطريقة غير متوقّعة، وفي أوقات ليست أوقاتنا وبالأساليب التي لا ننتظرها. وكما تُؤكِّد المتصوّفة والفيلسوفة الفرنسيّة سيمون ويل، نحن العروس التي تنتظر في الليل وصول العريس، و”دور عروس المستقبل هو الانتظار […]. أن نطلب الله ونزهد بكلّ شيء آخر: في هذا فقط يكمُن الخلاص”. أيّها الإخوة والأخوات، لِنُنَمِّ انتظار الرّبّ في الصلاة ولنتعلّم “استسلام الروح” السليم: فنصبح هكذا قادرين على الانفتاح على حداثة الله.
وختم البابا فرنسيس عظته بالقول على مثال سمعان، لنحمل بين ذراعَينا نحن أيضًا الطّفل، إله الحداثة والمفاجآت. وبقبولنا للرب، سينفتح الماضي على المستقبل، والقديم الذي فينا سينفتح على الجديد الذي يولِّده الله فينا. وهذا الأمر ليس بسيطًا – نحن نعرف ذلك – لأنّه، في الحياة الرّهبانيّة كما في حياة كلّ مسيحيّ، من الصّعب أن نعارض “قوّة القديم”: “ليس من السهل على الإنسان القديم فينا أن يقبل الطفل، الجديد… إنَّ حداثة الله تقدّم لنا نفسها كطفل، ونحن، بكل عاداتنا، ومخاوفنا، وشكوكنا، وحسدنا، وهمومنا، نقف وجهًا لوجه أمام هذا الطفل. فهل سنعانقه، وهل سنقبله، وهل سنفسح له المجال؟ هل ستدخل هذه الحداثة حقًّا في حياتنا، أم أننا سنحاول بالأحرى أن نجمع بين القديم والجديد، ونسعى لأن يسبب لنا حضور حداثة الله أقل قدر ممكن من الازعاج؟ هذه الأسئلة هي موجّهة إلينا، وإلى جماعاتنا، وإلى الكنيسة. لنسمح لها بأن تقلقنا، ولنسمح للرّوح القدس بأن يحرّكنا، على مثال سمعان وحنَّة. وإذا عشنا، مثلهما، في الانتظار، وحافظنا على حياتنا الداخلية وفقًا للإنجيل، فسنعانق يسوع، نور الحياة ورجائها.